قرأت د. درية كمال فرحات (في مقالة نشرت لها في جريدة ” اللواء ” اللبنانية ) في رواية الأديب والوزير السابق طراد حمادة التي حملت عنوان ” صيف البلابل ” ..قالت :
رواية «صيف البلابل» من اصدار أرواد للطباعة والنَّشر – طرطوس، للأديب الوزير السّابق طراد حمادة الذي يؤرّخ روايته في صفحة الغلاف أنّها كُتبت في زمن الكورونا، هذه الجائحة التي غيّرت وجه الحياة.
تنفتح الرّواية على رحّالة مشرقيّ يدعى ثابت بن مرّة مع حصانه في لحظة حصوله على مخطوط، رأى فيه كنزاً، يجب عليه الاحتفاظ به في مكان سريّ، وتنطلق مغامرته، فيشارك عمّالاً في إعمار المنزل الجديد في بقعة من أرض لا يعرفها، وتكون المكافأة إطلاق اسم «عمّار» عليه، ومنحه مفتاح بيت ليعيش فيه. هذه الصّورة تذكّرنا بصورة دون كيخوت فارس رواية الكاتب الأسباني سرفانتس، الذي رسم في روايته مغامرة بطله وصراعه مع طواحين الهواء، هذا البطل النّبيل الذي أحبّ قراءة كتب الفروسيّة.
وإذا وقع الفارس النّبيل بجنون المغامرات فخلط الواقع بالخيال فبات يرى الأحداث كما لو أنّها وقعت، فإنّ بطل رواية صيف البلابل وقع أسير تداعيات عبر أحلامه وكوابيسه، فيرى أحداثاً، ويعيش آلاماً، ويختبر واقعاً كأنّه عاشه، «تفكّر ثابت بن مرّة مليًّا في ما يحدث له وحوله، وهل هو على أرض الواقع المعاش كما يرى، ويسمع ويلمس ويشمّ، ويذوق؟ أم هو في عالم الحلم والرّؤيا» (ص11)، ومن خلال تداعيات ذاكرته، نتعرف ما حدث في زمن الوباء.
وتقوم الرّواية على حبكة فقدان البطل لذاكرته، فتعود في «زمنها الرّوحيّ إلى القرون الوسطى» (ص143)، ويعيش شخصية «ثابت بن مرّة»، وما يحمله اسم هذه الشّخصيّة التّاريخيّة من دلالة على العلم والفنون والمعرفة. ونراه أيضاً «عمّار الأدمي» صاحب حقلة الورد في المدينة المستدامة الجديدة وهو الخطيب المقتدر في الكلام، وهو صفير البلابل، ليتبيّن لنا أنّه بعد عودة الذّاكرة إليه ما هو إلّا «حيّان إسماعيل» الذي خرج من المدينة هرباً من وباء كورونا المنتشر.
وهكذا يقضي بطل الرّواية بين شخصيّات ثلاث، الأولى متخيّلة/ ثابت، والثّانيّة مكتسبة من النّاس/ عمّار، والثّالثة هي شخصيّته الحقيقيّة/ حيّان. وما يقع به البطل يجعله يعيش حالتين إمّا الانشداد إلى المستقبل أو العودة إلى الماضي لتحقيق التّكيّف «إمّا أن نكون متّجهين إلى العمل، فنشدّ حاضرنا إلى مستقبلنا بقصد التّكيّف وهو حالة، وإمّا أن يترخى اهتمامنا بالحياة الواقعيّة، ونعيش حالة من أحلام اليقظة، فنقصّر عن التّكيف، وينطوي حاضرنا في ماضينا» (ص143)، وهذا ما وصلت إليه روز البستاني الفتاة المثقفة أستاذة الأدب والفنون التي يلتقي بها البطل في المدينة المستدامة، فتنشأ بينهما علاقة حبّ روحيّة فكريّة وينشدان هدفاً واحداً.
فما هو الهدف الذي ينشدانه؟ إنّه هدف العودة إلى الطّبيعة ففيها الملجأ والملاذ، «الطّبيعة وحدها الخلاص» (ص151)، والعودة إلى الطّبيعة هي أيضاً باب النّجاة من جائحة كورونا، والعودة إلى بناء دولة تحقّق النظريّات الاقتصاديّة السّليمة، والطّبيعة أيضاً هي الملهم والمعلّم، فمن كلّ طير نتعلّم عبرة، ومن كلّ وردة نتعلّم حكاية.
وللاستفادة من هذه الطّبيعة لا بدّ من مبادلتها الحبّ، «لا يمكن للإنسان أن يكون وفيّا صالحاً إلّا إنْ كان لها شريكاً وعاشقاً» (ص57)، وما هذه العلاقة المتبادلة إلّا لتبيان الأسباب التي أدّت إلى وجود جائحة كورونا، فالإنسان قد أساء إلى البيئة، ووصل إلى الطّريق المسدود، ومن الضّرويّ العودة إلى الوفاق مع الطّبيعة للتّخلّص من كلّ الشّوائب.
دعوة واضحة وصريحة يطلقها الكاتب في روايته، ولم تكن على لسان البطل فقط، أنّما تكرّرت مراراً، ولعلّ هذه الصّرخة كانت بعد الاختناق من المعاناة التي وصل إليها أبطال الرّواية، فكان البحث عن المدينة المستدامة، وعن عالم نقي بعيد من شوائب المدنيّة. وهو البحث عن المدينة الفاضلة التي تحدّث عنها الفلاسفة، ونشدها الجميع.
ويقدّم الكاتب في روايته صورة واضحة لهذه المدينة الفاضلة التي ينشدها أبطاله، فما يسودها هو العدالة والمساواة والمحبة والتّضامن والتّعاون وغيرها من القيم التي فقدناها مع جعجعة الحياة، ومع فساد عالم سينتهي حكماً، «لأنّ العالم لن يبقى على ما هو عليه؛ لقد فسد وانتهى الأمر، وكلّ بناء بعد الآن بناء جديد» (ص173)، وهذه المدينة المستدامة الجديدة ليست فقط للنّجاة من الوباء، إنّما لبناء مدينة جديدة تعبّر عن أفكار جديدة وعالم جديد.
إنّها سفينة نوح الجديدة، أو الفرقة النّاجيّة «لعلّها المدينة النّاجيّة من الوباء» (ص14)، ومن يلتحق بهذه السّفينة الجديدة، عليه أن يدرك الأسس التي تقوم عليها ومنها التّكافل الاجتماعيّ والمحبّة.
قدّم الأديب طراد حمادة رواية تعالج قضية معاشة، لم نصل إلى خواتيمها، فأصبحت الرّواية رؤية استشرافيّة علاجيّة. والقارئ للرّواية يعيش مع الفلاسفة والشّعراء والمفكرين والعلماء والاقتصاديين والمؤدلجين السياسيين، ففي طيّات أحداث الرّواية الكثير من المعلومات العلميّة المهمة التي لو اقتطعناها من الرّواية لقدّمنا أبحاثاً علميّة ومقالات اقتصاديّة وسياسيّة، لكنّ الكاتب استطاع أن يقدّم لنا هذه الثروة المعرفيّة بفروعها كلّها بقالب روائي سرديّ، تقوم حبكتها على الذّاكرة المفقودة/ والذّاكرة الحاضرة، مستخدماً تقنيّة السّرد المباشر حيث يقصّ الرّاوي/ الكاتب الأحداث ويحلّل الشّخصيّات، وقد ينفذ إلى أعماق تفكيرها ويكشف عن صراعها. لكنّ بعض أجزاء الرّواية انتقلت إلى السّرد المنطلق من ذاكرة البطل ثابت بن مرّة، أو ما روته البطلة روز البستاني. وقد لجأ الكاتب أيضاً إلى طريقة أخرى للسّرد واستفاد من الرّسائل المتبادلة بين البطلين.
واللافت أنّ الكاتب في الرّواية قد لعب على سيمائيّة الأسماء وما أدّته من دور في بناء االحدث، كما أنّه حرص على تسمية كلّ الشّخصيات الثّانويّة في الرّواية، منوّعاً بين انتماء هذه الأسماء إلى فئات لبنان المتنوّعة، وقد يحمل هذا الحرص فكرة يريد الكاتب إيصالها، فالنّجاة لن يكون فرديًّا إنّما جمعيّا.
ويعيش القارئ مع رواية «صيف البلابل» مع معطيات عصر التّواصل والإعلام، ففي بعض مقاطعها إشارة إلى البرامج التلفزيونيةّ التي كانت الواجهة لإبراز التنوّع في الأفكار والآراء السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. والحوارات التي كانت تدور في لقاءات البطل مع الشّخصيات الأخرى سواء في بلديّة المدينة المستدامة أو في بيته وحقله، شبيهة بالحوارات التي تدور على صفحات التّواصل الاجتماعيّ. واللافت أيضاً أنّ الكاتب منح ثابت بن مرّة صفة صفير البلابل، ولعلها تذكّرنا بموقع «تويتر» أي المغرِّد أو البلبل الصدّاح، الذي اشتقّ من فعل «تو تويت» to tweet الإنجليزي، أي غرّد وزقزق، فتحوّل البطل إلى مغرّد ينقل لنا أفكاره.
رواية «صيف البلابل» تبحث عن مدينة فاضلة افتراضيّة، لتكون برّ الأمان والنّجاة مما وصلنا إليه في عصرنا، وللتّخلّص من لعبة الأمم التي نشرت الهلع في حياتنا، ولن يكون ذلك إلّا عبر العودة إلى الجذور وإلى الأرض.
# د. درية فرحات / منتدى الأدب الوجيز في لبنان
* أستاذة في الجامعة اللبنانيّة