الجزء الخامس عشر، والأخير من مقالة الدكتورة مفيدة الجلاصي النقدية التي حملت عنوان “خصائص المنهج النقدي عند طه حسين من خلال حديث الأربعاء”..
مهما يكن من أمر فإن للخطاب النقدي عند طه حسين سمات منهجية تميزه لا سيما في، حديث الأربعاء بأجزائه الثلاثة بما احتوته من رؤية نقدية لها خصوصيتها الجمالية في إطار النقد العربي الحديث وهي رؤية قامت على الثورة على أساليب النقد القديم في دراسة الأدب تعكس محاولة جادة لإثراء الحياة الأدبية والفنية والفكرية العربية بتوخي مناهج جديدة في البحث تقتضي، من النقاد الإطلاع على الآداب الأخرى والاحاطة بالأساليب الجديدة والمتجددة يحدوه إيمان عميق بأن الأدب الحق “إنما هو ما يؤثر من الشعر، والنثر، وما يتصل بهما لتفسيرهما والدلالة على مواضع الجمال الفني فيهما” ( انظر طه حسين “في الأدب الجاهلي ص 27)
ولا غرو إذن أن يكون” طه حسين”
صاحب موقع فكري له سلطته النافذة في الساحة الادبية والثقافية والإبداعية انذاك بدعوته إلى النهضة لذلك جاهر بمواقفه بأسلوب سجالي كان مجلبة للمتاعب الكثيرة فصرح قائلا:” أنا لا أميز كتابا عن كتاب فلكل كتاب فكرة ومناسبة ومعظم كتبي قد خرجت من قلب معركة” ( صرح بهذا القول في، مقابلة صحفية بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين وهو حديث بعنوان “ثلاثة أرباع قرن في عمر طه حسين” كتبه ماجد عطية ونشره لمجلة المصور ع 2093 /20 نوفمبر 1974 ص 30)
هكذا تغدو الكتابة عند طه حسين سلاحا يمتشقه للدفاع عن قيم الحرية والعقلانية والحداثة فهي بالإضافة إلى أنها إبداع فني وبوح ذاتي تكتسب صفة النضال الجسور، ضد قوى التخلف والكبت والظلام”
(انظر :أحمد عليي” طه حسين. “سيرة مكافح عنيد ص 23)
هكذا كان طه حسين على الدوام صاحب المساجلات والمعارك النقدية عاش، في سجال مستمر مع الخصوم من اعلام جيله حول العديد من قضايا الفكر، والنقد وشؤون التربية والثقافة لا سيما مع
” مصطفى لطفي المنفلوطي”و” رشيد رضا” و”جرجي زيدان” و”عبد الرحمان شكري” و”محمد حسين هيكل”
لقد كان “طه حسين” بلا ريب أحد بناة النقد العربي الحديث ما انفك ينشد التجديد ولا شيء، غيره لذلك لم يكن يحفل بالمستوى النقدي النظري ولم، يفرقنا بمجموعة من المقاييس النظرية الجافة بل عمل على استقراء الأدب العربي في عملية نقدية اجرائية مباشرة وتطبيقية اعتمد فيها على التحليل الجمالي منهجا في البحث عن مقومات النصوص، الشعرية وتحديد علاقتها بأصحابها وبالبيئة التي عاشوا فيها
وللولوج إلى تلك المفومات سعى إلى بناء نقده على أسس نظرية، دعمها ببحوثه الإجرائية عبر قراءاته التحليلية للتصوص،الأدبية العربية القديمة والحديثة وهنا تكمن خصوبة فكره النقدي الذي شغل الدارسين حيا وميتا فحظي، منهم بالكثير من البحث والدرس
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه كان الرائد الفكري او الظاهرة الفكرية في عصره التي ستبقى محل دراسة وتحليل وبحث ونقد بما تركه من كتابات غزيرة تنوعت اجناسها الأدبية وتمثل هدفها الجوهري، في السعي إلى تحرير العقل والإنسان بمواجهة الفساد الفكري والأدبي وبتر،أصوله في المجتمع العربي عله يحقق بعض، ما حققته المجتمعات الغربية من رقي ادبي، وفكري وحضاري
لا شك إذا في ان مقالات “حديث الأربعاء” مثلت منعرجا حاسما في، تاريخ النقد العربي الحديث بما احدثته من انقلاب في العملية النقدية ثم علينا التأكيد على أن هذه المقالات تتظافر مع دراساته النقدية الأخرى لتكشف لنا عن شخصيته النقدية بما اقدم عليه من نقد سجالي حجاجي تشكيكي دون أن يخشى ردود فعل المحافظين لذلك ثار على نمط فكري رآه عقيما خاضعا لتقديس القديم فصدع بمواقفه التجديدية بكل جرأة حتى وإن سببت له المتاعب ما دام مؤمنا، بالتجديد وسيلة بل سلاحا للإصلاح
ولعل خصوبة الفكر النقدي عند طه حسين تكمن في نظرنا في انه عزز مقالاته النقدية النظرية بقراءات حاول من خلالها إحياء النص الأدبي العربي القديم ووضعه في إطار بحث جديد وتناول منهجي حديث، تحلبلا وتحقيقا بخلق معايير جديدة في الدراسة النقدية التي تعتمد على التأمل وتحمل المسؤولية الفكرية والادبية في مواجهة الخصوم الذين أنكروا مواقفه المشككة في الأدب الجاهلي خاصة فطه حسين لم يكتب في النظرية النقدية ما يقيم مذهبا معينا وقد يكون تعمد ذلك تعمدا لأنه بين في العديد من المناسبات عداءه للنظريات النقدية والقواعد الجافة لانه كما صرح يعتبر نفسه “من أنصار الحرية في الأدب التي لا تؤمن بالقواعد الموضوعة والحدود المرسومة” (انظر :”طه حسين” فصول في الأدب والنقد ص 48 وانظر أيضا “تجديد ذكرى أبي العلاء” ص 94 وانظر، مقدمة “في الأدب الجاهلي ص، 59)
ثم يضيف قائلا في نفس المرجع :” إنما الأثر، الأدبي عندي هو هذا الذي ينتجه الكاتب أو الشاعر كما استطاع أن ينتجه لا أعرف له قواعد أو حدودا إلا هذه القواعد والحدود التي يفرضها على الأديب مزاجه الخاص وفنه الخاص وهذه الظروف التي تحيط بمزاجه وفنه فتصور أثره الأدبي في الصورة التي يخرجه فيها للناس”
ويكمن مرد إيمانه بالحرية في الإبداع هو، الذوق المثقف المهذب الخالي من الجفاء والفساد لذلك يراه عمدة الإبداع الأدبي
لقد أثارت آراء” طه حسين “ضجة اضطر، معها إلى إصدار كتابه” في الشعر الجاهلي “تحت عنوان” في،الأدب الجاهلي” فحمل عدة تراجعات لم تفقده أساسيات القضية التي طرحها، وما تزال تجتاج تقويما وبحثا حيث نقف على المنهج الذوقي،التأثري،الذي دعمه بدراساته الأدبية والتاريخية والتربوية وترجماته وتعليقاته ولقاءاته الصحافية التي توالت لتعلن جرأته في تقديم تطبيقاته لمواقفه الفكرية
فكان الشك مبدأ هاما في إصدار أحكامه ولعلنا من هنا نفهم لماذا كان طه حسين يكثر من عبارات معينه من قبيل ” الترجيح والاحتمال والظن في قوله” وأكبر الظن او، أكاد لا أشك او، أكاد أقطع….
ومن يتضح لنا ان طه حسين شاء، ان يؤسس، لنفسه سلطة أدبية وفكرية لأنه مؤمن بمدى ثراء تاريخنا الأدبي وما علينا إلا أن ندرسه دراسة جديدة تستجيب للنقد التحليلي والاستقرائي بالاعتماد على التأمل والتحقيق فكان خطابه النقدي خطابا طاعنا خارق للسنن القديمة في النقد بأسلوب سجالي حجاجي..
# (الناقدة والشاعرة الدكتورة مفيدة الجلاصي/ تونس )