رسالة 99 :
من كتاب “رسائلُ إلى بحار ورسائلُ أخرى” للأديبة التونسية سليمى السرايري
إلَى الشَّاعِرَةِ فَاطِمَة عبد القادر
صَدِيقَتِي،
هَلْ تَدْرِينَ يَا صَدِيقَتِي، أَنَّ اَلصَّمْتَ أَحْيَانًا يَحْتَوِي كُلَّ مَشَاعِرِنَا، آلَامِنَا، سَعَادَتِنَا، وَأَشْيَاءَ أُخْرَى كَثِيرَةً جِدًّا؟
هُوَ الَّذي يَنْحَتُ ظِلَالَنَا عَلَى أَبْجَدِيَّةٍ هَادِئَةٍ وَيَكْبُرُ فِي خَلَايَانَا لَحْظَـةً بَعْدَ لَحْظَةٍ وَكُلَّمَا مَارَسْنَا عِشْقَ اَلْحَـرْفِ يَفِيـضُ لُؤْلُؤًا وَفَيْرُوزًا عَلَى اَلْوَرَقَةِ، يُعَانِقُ ذَلِكَ الشُّعُورَ السَّاكِـنَ حُجُرَاتِ اَلْقَصِيدَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَفْتُونًا، وَيَظَلُّ وَحْدَهُ يَحْتَضِنُ ثَوْبَ اَلْحَيَاةِ.
وَأَنَا هُنَا لَا أَعْرِفُ أَيَّ اتِّجَاهٍ أَسْلُكُ؟ وَالْأَبْجَدِيَّةُ تَعُودُ لَهَا اَلْحَيَاةُ كُلَّمَا لَثَمَتْهَا أَنَامِلُكِ وَتَطِيرُ مِنَ اَلنَّافِذَةِ نَحْوَ اَلسَّمَاءِ اَلْبَعِيدَةِ مِثْلَ أَحْلَامِنَا تَمَامًا.
وَأنَا أُعَانِقُ حَرْفَكِ اَلْحَرِيرِيَّ وأَتَسَاءَلُ:
كَيْفَ أَعُودُ مِنْكِ اَلْآنَ، وَضِحْكَتُكِ اَلْخَجُولَةُ هُنَاكَ فِي سَاحَةِ اَلْمَدِينَةِ اَلنَّائِمَةِ، أُسْطُورَةُ جَمِيعِ اَلَّذِينَ دَاعَبَتْهُمْ اَللُّغَةُ وَمَضَوْا نَحْوَ كَهْفِ اَلْعِبَارَةِ غَيْرَ عَابِئِينَ بِصَخَبِ اَلْعَالَمِ؟ وَكَيْفَ أُخَبِّئُ حَيْرَتِي كُلَّمَا وَلَجْتُ عَالَمَكِ اَلْهَادِئَ وَالْحُرُوفُ تَقْتَرِبُ مِنِّي مُعَاتِبَـةً؟
اُتْرُكِينِي أَمْكُثُ بُرْهَةً عِنْدَ اَلشُّرْفَةِ اَلْمُطِلَّةِ عَلَى وَجْهِكِ، أَخْتَلِسُ اِخْضِرَارَ دَوْحَتِـكِ لِأُزَيِّنَ بِهِ وَجَعَ اَلْعَصَافِيرِ اَلصَّغِيرَةِ اَلْمُسَافِرَةِ إِلَى جِهَةٍ لَا نَعْرِفُهَا خَوْفًا مِنَ الاخْتِنَاقِ. أُتْرُكِينِي قَلِيلاً أُرَتِّبُ بَعْضِي، أَمْسَحُ قَطَرَاتِ اَلْأَرَقِ مِنْ جَبِينِ الوَقْتِ، وَأَرْسُمُ عَلَى وِسَادَاتِ اللَّيْلِ آخِرَ أَلْوَانِ ” بِيكَاسُّو “.
اِسْمَحِي لِي بِبَعْضِ شَهْقَةٍ أُلَمْلِمُ فِيهَا أَوْرَاقِي اَلْمُبَعْثَرَةَ وَأَحْمِلُ هَذِهِ اَلْأَبْجَدِيَّةَ إِلَى مَدِينَةِ الْمَوَاعِيدِ، وَتَعَالَيْ… هُنَاكَ فِي غَفْلَةِ الازْدِحَامِ، عِنْدَ اَلْفُصُولِ اَلسَّاحِرَةِ وَالْكَوَاكِبِ اَلْمُشِعَّةِ، سنَحْتَفِي مَعًا بِالْأَحْلَامِ اَلْمُسْتَحِيلَةِ، فأَنَا يَا صَدِيقَتِي لَا أَسْتَطِيعُ تَجْمِيلَ اَلْقَوَافِي، وَلَا أُتْقِنُ غِنَاءَ اَلشَّوَاعِرِ، وَلَكِنِّي أَعْرِفُ كَيْفَ أَخْلُقُ انْزِيَاحَاتٍ غَرِيبَةً وَبَدِيعَةً لِتَكْتَمِلَ أُسْطُورَةُ اَلسِّحْرِ.
الشاعرتان سليمى السرايري وفاطمة عبد القادر
أَنْتِ وَأَنَا، نُدْرِكُ تَمَامًا أَنَّ اَلْأَمْكِنَةَ سَتَكُونُ أَكْثَرَ اتِّسَاعًا مَهْمَا ضَيَّقُوا اَلْمِسَاحَةَ لِأَنَّنَا نَمْتَلِكُ اَلسَّمَاءَ فِي أَعْمَاقِنَا، وَمَنْ يَمْتَلِكُ اَلسَّمَاءَ، لَنْ يَهْتَمَّ بِالتُّرَابِ.
وَأَنْتِ تَعْرِفِينَ أَنَّ الْقَمَرَ يَدٌ عُلْيَا يَعْرِفُ مَدَى حَاجَتِنَا لِضِيَائِهِ رَغْمَ اَلْإِشَارَةِ اَلذَّكِيَّةِ إِلَى اهْتِرَائِهِ، وَهُنَا نُدْرِكُ أَنَّ اَلْقَمَرَ لَيْسَ بِهِ هَوَاءٌ فَهُوَ خَالٍ مِنِ اَلْحَيَاةِ.
وَرَغْمَ ذَلِكَ هُوَ قِنْدِيلٌ لَا يَمُوتُ، يُوَزِّعُ عَلَى اَلْأَرْضِ مُسَاعَدَاتِهِ اَلْمَجَانِيَّةَ لَا أَحَدَ يَدْفَعُ، اَلْكُلُّ يَحْتَاجُهُ وَالْكُلُّ يُنَاجِيهِ.
وَنَحْنُ نَسْتَعِيرُ لِقَصَائِدِنَا اَلنُّورَ مِثْـلَ: اَلْقِنْدِيلِ، اَلْمَصَابِيحِ، اَلشُّمُوسِ، كُلُّ هَذِهِ اَلْمُفْرَدَاتِ تُؤَكِّدُ مَدَى مِسَاحَةِ اَلضَّوْءِ فِي اَلذَّاتِ اَلشَّاعِرَةِ اَلَّتِي نَتَمَتَّعُ بِهَا.
إِذَنْ، هُوَ اَلْخُرُوجُ مِنْ اَلْعَتَمَـةِ، وَاَلتَّخَلُـصُّ مِنْ كُلِّ شَوَائِبِ اَلْحُزْنِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَهُنَا يَكْمُنُ اَلْجَمَالُ اَلرُّوحِيُّ اَلْمُقَدَّسُ لِيَحْمِلَنَا بَعِيدًا أَيْنَ نَلْمَحُ اَلْمَطَرَ وَقَدْ صَارَ خُصُوبَةً تَمْلَأُ اَلْجَسَدَ.
هُنَاكَ أَيْضًا انْتِمَاءٌ رَائِعٌ لِلْأَرْضِ فِي قَصَائِدِكِ، بَلْ عِنَاقٌ حَرِيرِيٌّ يَطْوِي كُلَّ اَلْمَسَافَاتِ لِنَصِلَ إِلَى شَفَافِيَّةٍ أَنِيقَةٍ تَتَحَلَّيْنَ بِهَا كُلَّمَا تَسَاقَطَ عَلَى وَجْهِكِ هَسِيسُ ذَاكَ اَلْمَطَرِ.
يَا صَدِيقَتِي،
كَمْ مِنْ ثَوْبٍ مَزْهُوٍّ بِرَوْنَقِهِ وَتَشْكِيلَتِهِ اَلْجَدِيدَةِ، يُخْفِي خَلْفَ خُطُوطِهِ وَرُسُومِهِ اَلْهَنْدَسِيَّةِ اَلْمُلَوَّنَةِ، مُدُنًا مِنْ اَلدُّمُوعِ وَالْحُزْنِ وَالضَّيَاع.
كَمْ مِنْ وَقْتٍ مَرَّ بِسُرْعَةِ البَرْقِ، لَمْ نَلْحَقِ اَلاحْتِفَاظَ بِبَعْضِ أَسْرَارِ ثَوَانِيهِ. لَقَدْ تَحَوَّلَ اَلْمَدَى إِلَى ضَبَابٍ فَلَمْ نَعُدْ نَتَبَيَّنُ اَلْمَدَى مِنْ اَلسَّرَابِ.
هِيَ مَدِينَةُ اَلْهَبَاءِ إِذْنْ، هَذِهِ اَلَّتِي نَعِيشُهَا، هَذِهِ اَلَّتِي تُهِيلُ رَمَادَ اَلطُّرُقَاتِ اَلنَّائِمَةِ عَلَى خَدَّيْهَا كُلَّمَا اتَّسَعَتْ اَلرِّيحُ وَدَخَلَتْ دَائِرَةَ احْتِرَاقِنَا وَأَرْوِقَةَ ضَيَاعِنَا.
فِعْلاً كَانَ عَلَيْنَا أَلَّا نَذْهَبَ إِلَى قَلْعَةِ اَلتِّيهِ وَحْدَنَا يَا فَاطِمَةُ، كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ كِلَابَ اَلْحِرَاسَةِ تَرَافِقُنَا قَبْلَ اَلْخُرُوجِ إلَى الضَّوْءِ فَنَضْطَرُّ إِلَى تَوْقِيعِ مُخَالَفَةٍ ضِدَّ اَلْقَانُونِ.
نَحنُ مَنْ أَعْلَنَتَا مَرْثِيَّةَ اَلْعَتَمَـةِ، وَمَرْثِيَّةَ اَلْقَصَائِدِ اَلَّتِي لَبِسَتْنَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْنَا.
فَلْتَكُنْ مَلْحَمَةَ اَلَّذِينَ غَنَّوْا بِاسْمِ اَلْحُرِّيَّةِ وَبَارَكَتْهُمْ نُبُوءَةُ اَلْعَرَّافِينَ. لِتَصْهَلْ خُيُولُ الْإِبْدَاعِ فِي أَحْلَامِنَا، وَلِتَرْتَفِعْ حَرَارَةُ اَلشَّمْسِ أَكْثَرَ مِمَّا هُـوَ مُنَاسِبٌ لَنَا،
قَدْ نَلْتَقِطَ فِيتَامِينْ ” دال ” لَرُبَّمَا قَرِيبًا يَمْنَعُونَ عَنَّا اَلشَّمْسَ.
أَصْغِي جَيِّدًا يَا صَدِيقَتِي لِصَوْتٍ قَادِمٍ مِنْ جِهَةِ اَلْجَنُوبِ:
هِيَ فَاطِمَةُ تُعَانِقُ رَجْفَةَ اَلْمَدَى …
تُـرَاقِصُ ظِلَّ اَلْغَابِرِينَ …
هِيَ فَاطِمَةُ تَرُشُّ اَلضِّيَاءَ عَلَى عَتَبَاتِ اَلْوَجَعِ
وَتَزْرَعُ شَمْسًا عَلَى شُرْفَةٍ عَالِيَةٍ …
وَفَاطِمَةُ كَكُلِّ اَلْفُصُولِ
تُحِبُّ اَلْوُرُودَ
مُمْطِرَةً حِينًا …
وَحِينًا تَرْتَدِي أَلْوَانَ اَلسَّمَاءِ
فِي عَيْنَيْهَا تَبْنِي اَلطُّيُورُ أَعْشَاشَهَا
عَلَى ثَغْرِهَا نَخْلٌ يَرْتَفِعُ وَصَبَاحٌ يَبْتَسِمُ.
وَفَاطِمَةُ كَكُلِّ اَلنِّسَاءِ
تَشْتَهِي مَمْلَكَةً لِلْحُبِّ
وَعِشْقًا يَفْتَحُ لِلْجُنُونِ بَابًا
وَتُصَلِّي عِنْدَ اَلْبَحْرِ صَلَاةً
وَهِيَ كَكُلِّ اَلْبَنَاتِ
تَجْمَعُ اَلْأَلْوَانَ مِنْ شَمْسِ اَلنَّهَارِ
وَتَبْكِي عِنْدَ تَحْطِيمِ اَلدُّمَى …
فَاطِمَةُ يَا وَاحَةَ اَلشِّعْرِ والنَّخيلِ
كُـونِي كَمَا أَنْتِ نَبْضًا للنَشِيدِ
وَامْنَحِينَا قَلِيلًا مِنْ وَرَدِ اَلْفُصُولِ.
سليمى السرايري / تونس
