شريح وإنكسار القومية
” لست أدعي أني إستقصيت البحث في مسألة إنكسار القومية وتشظي العلماتية في المشرق العربي من أنطون سعاده إلى جمال عبد الناصر 1949- 1961، ولست أزعم أني إستوفيت البحث حقه، فهذه مسألة بحاجة إلى إعادة نظر فيها، كلما تقدم الزمن.”
الأدب بصفته مرآة الأحوال، يستطيع أن يسجل الدقائق ويستطلعها ويتنبأ بنتائجها. هو المقياس لنبوغ الأمم وإنحدارها. لا تستطيع السلطات كم أفواه الأدب. ولا تستطيع التحكم بها. الأصوات الأدبية هي الأقوى، لأنها منسوخة عن الريح التي تضرب الأغصان والأشجار والأودية ورؤوس الجبال. وهي نفسها التي تهز أمواه المحيطات العاتية. فما بالكم بهدير النفس الأدبية، حين تهز الضلوع البشرية وترجفها قطعا أدبية موقعة على أمواج الروح وعذاباتها في الأحايين الصعبة والقاسية.
“محمود شريح. إنكسار القومية وتشظي العلمانية في المشرق العربي. 1949- 1961. من أنطون سعادة إلى جمال عبد الناصر. العائدون. عمان- 2024.توزيع نلسن بيروت.”
أهم ما في هذا المؤلف، أنه لا يأخذ مادته عن المدونات السياسية. ولا من كتب التاريخ والسير الشخصية. يقول لنا منذ البداية، أنه يستمع لقيثارات النفس في الكتابات الأدبية. يتتبع، حركة الأدباء والمفكرين، ويدع طقوسهم الأدبية ترشح بكل ما هو شعر ونثر وفكر، وحراك يهز الأبدان والمشاعر. تلكم التي إستحكمت في النفوس، طيلة عقد من الزمن. بين عامي: 1949و 1961.
“نحا سعاده منحى رومانسيا مثاليا بالمعنى الأفلاطوني في إرساء نظام سياسي ينهض على الفضيلة، وإن كان إثر تأسيس حزبه في1933، إتجه إلى فلسفة مدرحية ناشئة من جوهر النفسية السورية التي أرخ لها… في نشوء الأمم… ثم جاء كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري، وثيقة أدبية حددت مسارات الحداثة في بلاد الشام.”
لا يذهب الدكتور محمود شريح، لتأريخ المرحلة من الكتب التسجيلية. يخشى على ضياع الحقائق. يخشى عبث المؤرخين وأهواءهم. يعرف مسبقا، أن التاريخ يكتبه المؤرخون على هواهم. فيقول في نفسه: “آفة العقل الهوى”. ولهذا نراه يتابع حركة المتنورين وحركة موار الشعر والأدب والفكر، لأنها بحسب ما يرى، وهو محق في ذلك، بأنها أصدق في نقل الوقائع والأحداث في مرآتها.
“شكلت خطب عبد الناصر… تراثا قوميا لا غنى عنه لدارس تنامي الفكر القومي العربي الحديث… في رحاب أميركية بيروت.”
يتتبع د. محمود شريح الآثار الأدبية والشعرية والفكرية ويحفر عليها، منذ ظهور الحركة القومية الإجتماعية، على يد أنطون سعاده، في شارع المكحول، خلف الجامعة الأميركية. وهو الآتي حديثا من الولايات المتحدة الأميركية، التي وصل إليها بصحبة والده، بعد أن عرج على القاهرة، وأسس الصحف. وتتبع الأدباء والشعراء والحركات الفكرية العاكسة للنهوض العربي.
“… شهدت ثلاثينيات القرن العشرين تحولات جذرية في بنية المجتمع العربي، إذ حملت السنوات السابقة للحرب الكونية الثانية في ثناياها بذور الإتجاهات والحركات الفكرية التي راجت في المشرق العربي مرحلة ما بعد الحرب الثانية.”
لم يدع د. محمود شريح شيئا إلا قاله، بشواهد من الشعر والأدب والفكر. لا بشواهد المؤرخين وأصحاب السير. وهذا ما يجعل عمله يتأسس على صدق المشاعر. وعلى حرارة أحاسيسها في آن.
” من إعدام أنطون سعاده في بيروت… إلى إخفاق جمال عبد الناصر في إنجاز الوحدة… كان الإنكسار القومي التوسع، بشقيه السوري والعربي…”
يتوقف د. محمود شريح، أمام الآفة التي ظهرت في فلسطين، حين بدأت الحركة الصهيونية العالمية، بتحريك آلتها السياسية والعسكرية واللوجستية، لإحتلال فلسطين. فيتتبع الإنعكاسات التي تركتها في عالم الشعر والأدب والفكر. وكيف بدأ المفكرون والأدباء والشعراء يتحولون عن تقاليدهم القديمة، ليواكبوا حركة الموج الصاخبة في العالم، بين حربين عالميتين. وبين دولتين. وبين معسكرين. وكيف ظهرت في غمرة الأحداث هذة، الحركات الأدبية والشعرية والفكرية، بكل مدارسها التي عرفت بها. من الواقعية إلى الرمزية إلى التفكيكية إلى السياسية.
“جاء الصراع الفكري في الأدب السوري لأنطون سعاده، فاتحة حداثة شقت دربها، شعرا ونقدا، ثم إتخذت وجهة تغييرية في ستى أنواع القوالب الفكرية، ما أتاح لظهور حركة ثقافية… ونقادها..”
يتابع د. محمود شريح، ظهور الناصرية الإشتراكية، بعد سقوط الملكية في مصر. وكيف إستطاعت مثل هذة الحركة أن تسلب الألباب. فقرأ إنعكاساتها على الأدب والشعر والفكر واللغة والفن. فكان لها أن تسيطر على العقول والقلوب وتتأثر بها الأجيال الشابة.
” كانت الآداب… قد إتهمت مجلة شعر بتهديم التراث العربي، ونشر الفوضى وبث الرفض والجنون…”
وخلال فصول الكتاب كله، يعمل الدكتور محمود شريح على النقد المقارن بين الرسالتين: القومية الإجتماعية، التي أسسها الزعيم أنطون سعادة. وبين الثورة الناصرية، التي واكبت الرئيس جمال عبد الناصر، وعبرت عن رؤيته وإرادته. وكان محمود شريح حقا، أستاذ الأدب المقارن وأستاذ النقد المقارن. بل أستاذ النقد المقارن بين رسالتين:
1-القومية الإجتماعية السورية.
2-والقومية العربية الإشتراكية الناصرية.
” في باب النقد… يدافع يوسف الخال عن مفهوم القصيدة الحديثة… ويجري في المجرى نفسه، عصام محفوظ…”
يخوض الدكتور محمود شريح بكل حرية في هاتين المسألتين التي كانتا مطروحتين على المجتمعات العربية في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر. يقول ما يراه في كتب الأدب والشعر والفكر والفلسفة. ويدع للأجيال قالته، التي رآها طيلة عقد من الزمن في هذة البلدان المركزية للقضية المركزية الأولى، قضية فلسطين، وتحريرها بسبل الثورة الناصرية، أم بسبل الثورة القومية الإجتماعية.
ولا يزال هذا السؤال مطروحا حتى اليوم، على الرغم مما مضى من الزمن غير الموائم. وعلى الرغم من الخسائر. وعلى الرغم من مرارة الهزائم، هنا و هناك وهنالك.
” أصدر أدونيس … مجلة مواقف داعيا فيها إلى الحرية والإبداع والتغيير، على مدى ربع قرن، فجاءت مجلته إتصالا بدورية شعر، مكملا رؤيته النقدية في أثره النفيس، الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والإتباع عند العرب.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين