أنطولوجيا المجزرة
“كانت الحرب في لبنان برمتها سلسلة من أعمال القتل والخطف والقصف والتفجيرات والإغتيالات. مارستها وإرتكبتها كل الأطراف المتصارعة وتحت عناوين مختلفة في فترات ومناطق متعددة. إرتكبت المجازر والقتل الجماعي وأعمال العنف الأعمى. لا أحد بريء من كل ذلك العنف الذي حصل. لكن ما يجعل مجزرة “صبرا وشاتيلا” خارج المقارنة، أمران:
أولا، أني عشت وأختبرتشخصيا أهوالها ونتائجها على الأرض.
ثانيا، أنها إستهدفت مدنيين عزلا من كافة الأعمار..”
لا تذهب المجزرة سدى. يعرف المجرمون الإرهابيون سلفا موقعها من نفوس الشعب الذين تعرضوا لها. يعرفون كم هي تبلغ من نفوس الناس الذين تعرضوا لها. الذين إمتحنوا بها. تذهب إلى صباحاتهم وإلى مساآتهم وإلى لياليهم. تجعلها على قلق دائم. تجعل ما تبقى من أيامهم، أياما مقلقة. فلا تعود الحياة عندهم تجري كما كانت. ولا هم يستطيعون مهما إشتدوا في نفوسهم، أن يناموا ليلة هادئة. ولا أن يستيقظوا صباحا هادئا. ولا أن يشموا يومهم، نسمة هادئة. فالشعب قبل المجزرة، هو غيره بعد المجزرة. يدخلون جميعا في أنطولوجيا جديدة. في أنطولوجيا رهيبة. إنها أنطولوجيا المجزرة، بعناوينها الكبرى التي وقعت. بشوارعها التي لا تنسى. بالمدينة التي أغتصبت، قبل أن ترتكب فيها المجزرة.
“زياد كاج. أمر فظيع يحصل. رواية واقعية عن مجزرة صبرا وشاتيلا1982. نلسن. بيروت-2024”.
…
هذة الرواية، هي أكثر من تجربة شخصية. تشهد على أحداث، تركت بصماتها على عيون الناس قبل قلوبهم. كأنها الدراما، مجسمة في مدينة وضاحية وشارع وشعب ووقت. نقول ايضا: كانت الحرب خلالها في أزمنة حقيقية. وكانت البلاد. كانت بيروت، في أزمة حقيقية مع الإحتلال الإسرائيلي. كان الإجرام عند المسؤولين الإسرائيليين، قد بلغ الزبى. أسال على أرض بيروت ميليشياته. ومعها الميليشيات المستوردة. نزلوا قبيل الغروب من الشاحنات المعبأة بهم، ليمعنوا القتل والخطف والتفجير. ليعلنوا على صدر المدينة من ضاحيتها، أنهم قدموا بالسواطير وبالبلطات وبالأشرطة الكهربائية. وبالرشاشات الكاتمة والمعلنة، القتل الجماعي. بل القتل الأعمى. فكان للمجزرة وقع الزلزال الذي هز بيروت. بل هز لبنان والعالم. يرسم الموت أينما كان لصوص الجريمة، يدوسون بأقدامهم، في الشوارع. يكتبون بالدم أعظم مجزرة.
الكاتب الروائي زياد كاج
أنطولوجيا المجزرة في صبرا وشاتيلا، حولت الناس كلهم، إلى مقاومين. همهم أن يطردوا الإحتلال. أن يلاحقوه إلى دنياه الأخيرة. وأما الشاهد اليوم، فهو من غزة.
“على حاملة الطائرات الأميركية “غوام”، إلتقى حبيب مع عدد من الضباط. ومع الكولونيل، جايمس ميد، لوضعهم في أجواء خطته لإجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية عن بيروت عبر المرفأ. خاطبهم بعد هبوطه من المروحية: “إن لم نتمكن من نزع فتيل الأزمة، فلسوف تقع مجزرة رهيبة تودي بحياة آلاف الأبرياء.”
الأديب والروائي زياد كاج، إستطاع أن يرفع الغطاء شرشفا، عن الجثث المنتفخة، في روحه وفي نفسه، وفي المخيمات التي تمتلئ بها. يتابع في روايته هذة المجرمين إلى أرض الجريمة، بلا توكيل إلا من روحه التي تزكيها الجريمة المتعددة.
إنها الجريمة العظمى، تلك التي جرت فوق أرض صبرا وشاتيلا. لكنها ليست الجريمة الأخيرة.
” إرتعش، فسارع أحد المسلحين إلى إطلاق النار عليه. مرة ثانية كتبت له الحياة. كان منير يخبئ وجهه بيديه، لما أصابته الرصاصة الثانية، فأصابت سبابته، فبترتها..”
زياد كاج، يرسم لنا خطوط أنطولوجيا المجزرة، بكل أبعادها. نقرأها. نتمعن فيها. لا يدعها تعبر بلا عربة فوق أجسادنا. لا نزال نسمع وقع عجلاتها على أبداننا، كلما أعدنا القراءة.!
” صمت مطبق. بقينا منتظرين حتى الخامسة فجرا. قيل لنا أن فادي على وشك أن ينقل إلى غرفة الإنعاش.
فتح باب غرفة الإنعاش. من ملامح الطبيب المناوب، عرفنا أن فادي قد فارق الحياة.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين