قراءة في قصيد تعبنا من السّفر
للشّاعرة سليمى السّرايري
من ديوانها الثاني ” صمت…. كصلوات مفقودة “
عنوان المقال: نوستالجيا
إنّ الشعر عند سليمى السرايري يتجاوز دائرة النّمطيّة والقوالب الجاهزة ويكسر حدود المألوف ليحلّق في عوالم فسيحة الأرجاء حيث يمتزج الشّعر والصّورة والإيقاع والخيال في لوحة فنّيّة كأنّها شاشة عملاقة تتالى فيها المشاهد في أدقّ تفاصيلها وأروع تجلّياتها هي مشاهد غارقة في الرّمزية والدّلالات المعبّرة عن اضطرام المشاعر والتدفّق العاطفي المتوهّج بما يحمله من ذكريات مليئة بالأحلام الورديّة أحيانا و بالقلق و المعاناة أحيانا أخرى كلّ تلك الاختلاجات تجعل الوجدان يسافر إلى ممالك الحنين والعشق والاشتياق والشّاعرة بذلك تلامس الفنّ التشكيلي فإذا هي رسّامة تجسّم بريشتها أبهى اللّوحات كمرٍآة للاختلاجات المختلفة التي تعتمل في الذات كما تلامس أيضا فنّ التّصوير السنيمائي فإذا هي مخرجة تتلاعب بالكاميرا لالتقاط مشاهد تكشف تخبّط الانسان في نوازع متقلّبة لذلك استدعت الشّاعرة إلى مأدبتها أنبل المعاني فنمّقتها وكستها أبهى الحلل وسكبت عليها من رحيق قريحتها أرقّ الأحاسيس والعواطف وعزفت بها أنغاما وايقاعات كلّها شوق وتوق وذكريات بقيت تسكن الوجدان هي ذكريات متموّجة تتراوح بين السعادة و الشقاء بين التّعب والرّاحة بين التّرحال والاستقرار فكان اختيارها للّفظ اختيارا دقيقا وفقا لمقاسات مضبوطة ضمن إطار لغوي رقراق سلس وأساليب فنّيّة متنوّعة وبذلك وُلدت القصيدة مشبعة بالانزياح و التّكثيف والمجاز والدلالات الموغلة في الرّمزيّة الطّافحة بالمعاني الغنيّة بالمقاصد في بناء استطاعت الشّاعرة تنضيده بكلّ اناقة فكان اللّفظ المناسب في المكان المناسب للرمز المناسب طوع ارادتها ووفقا لصيرورة الأحداث والحبك الدّراميّ للقصيد .
قديما كتبتك على أطراف ثوبي
قصيدة
رتّبتُ كل الكلام الذي……
جمعت كلّ الأقمار التي….
غفونا معا
على زند الذاكرة
استهلّت الشّاعرة سليمى اليدسرايري القصيد بكلمة ” قديما ” وبذلك تضعنا الشّاعرة في أطارني وهو الماضي البعيد بذكرياته وأحداثه المتقلّبة التي تبقى عالقة بالذّهن لا تمحوها السّنون خصوصا إذا كان تأثيرها في النّفس عميقا وكانت ذات علاقة وطيدة بالآخرين الذين يتفاعلون مع تلك الأحداث بتأثيرات تكون لها تداعيات تراكميّة وشروخا في النّفس غير قابلة للذّوبان إنّ استحضار الماضي هي عمليّة لا اراديّة وتكون شاقّة على الإنسان خصوصا إذا ارتبطت بمواقف دراميّة مُخلّفة جروحا لا تندمل وخصوصا أيضا إذا تعرّض الانسان إلى صلف الآخرين وقسوتهم ونكرانهم و جحودهم رغم الاحسان والتّودّد إليهم وايلائهم الحظوة العالية والمكانة المرموقة بأجود المعاني و أنبلها حيث لم تدخر العشيقة جهدا في التّودّد إلى معشوقها فقد :
” كتبته على أطراف ثوبها قصيدة “
كما:
“رتّبت كلّ الكلام “جمعت كلّ الأقمار”
إلى درجة:
“الغفو معا على زند الذّاكرة “
وتتجلّى الكثافة الرّمزيّة و الفنّيّات اللّغويّة التي جنحت إليها الشّاعرة في المقطع الأوّل للدّلالة على الوله والهيام في الآخر إلى حدّ الذّوبان ، في مشهد موغل في الانزياح للتّأكيد على شدّة العشق للمعشوق والافتنان به الى درجة التّلبّس به كقصيدة مكتوبة على أطراف الثّوب إنّ اقحام كلمة ” أطراف ” لم يكن اعتباطيّا بقدر ما أضفى على الجملة عمقا ودقّة ذلك أنّ أطراف الثّوب تحمل غالبا زركشة وزخرفا تضفي على الثّوب جماليّة وأناقة وبتلك المشهديّة الرّائعة والغارقة في الرومانسيّة ..
تفتّحت قريحة الشّاعرة في منحى تصاعديّ للعواطف لتستدلّ على سموّ تلك القصيدة التي احتوت على كلام مرتّب منمّق يشعّ كـ ” الأقمار” في جمل قصيرة غير منهاة تحمل في أواخرها نقاط متتابعة وربّما كان القصد من ذلك إعطاء خيال المتلقّي فسحة من التّصوّرات الممكنة ولعمري فذلك هو بعينه الخروج عن النّمطيّة و القوالب الجاهزة حيث يتلبّس القارئ بالقصيد فيصبح فاعلا فيها وليس مجرّد مستهلك مقيّد بمعان محدّدة وتتعاظم نشوة العاشقين ممّا جعلهما يغفوان معا والغفوة اصطلاحا هي فترة نوم قصيرة محدّدة في الزّمان والمكان ولكن الدّلالة المجازيّة لغفوة العاشقين في هذا الجزء هي الانغماس الكلّي و التّيه في دروب الوله و الصّبابة بحيث لا قيمة لا للزّمان و لا للمكان كما أنّ تلك الغفوة المجازيّة التي استمرّت ربّما لأسابيع أو أشهر أو عقود كانت ” على زند الذاكرة” وقد ارتبطت لفظة “زند” بلفظة “الذاكرة” للدّلالة على أهميّة المكان الذي سيحفظ ولهُ العاشقين ، فالزّند هو أقوى عضو في الجسم وهو القادر على حمل الأثقال التي تمثّل الذكريات الكثيرة التي لا تمحوها السّنون والتي تبقى محفورة في أعماق الذاكرة .
أشعلنا جنونا
على راحتينا
خلقنا مملكة
فمنْ أيّ حنين
إذا ما غرقنا نعود؟؟
بأيّ ماء احترقنا
ونحن نحاول هذا السفر
الشاعرة التونسية سليمى السرايري
وتتصاعد وتيرة العواطف الجيّاشة وتتالى الكلمات في تراتبيّة تصاعدية وفي نسق مشبع بالتكثيف و المجاز للدّلالة على “عشق الجنون” أو “جنون العشق ” أو على بلوغ أقصى درجات الهيام ولعلّ بداية المقطع من الدلالات الواضحة على تأجّج المشاعر و اضطرامها و تزول معه جميع المقاييس فكان “خلق مملكة” من انبعاث عالم جديد يجد فيه العاشقان ضآلّتهما وعالم يمتلكانه وحدهما له نواميسه و حدوده و مقاييسه ولكن سياق الكلام ينحرف فجأة نحو الفاظ ذات اتّجاه عكسيّ للمنحى الأوّل الفاظ لها وطء شديد على صيرورة الأحداث كـ “الغرق” مثلا ، كما تظهر الأسئلة التراجيديّة الحبلى بلفحات المأساة والمعاناة ربما هي بداية التّصدّع والشّقاء وربّما هي الحيرة القصوى أمام المآسي التي تخبّؤها الأقدار تلك الحيرة التي تتشابك أمامها الطّرق و الثّنايا وتختلط فيها السّبل ممّا يحجب المسارات إنّها الدوامة التي يستحيل الخروج منها كما تستحيل العودة:
” فمن أيّ حنين إذا ما غرقنا نعود“
“بأيّ ماء احترقنا ونحن نحاول هذا السّفر“
وما تكثيف الانزياح في هذا المقطع إلاّ دليل على التخبّط في وضعيّة شائكة فيها شبه استحالة لعودة الحال لطبيعته خصوصا بعد الغرق المجازي في أتون المعاناة والشّقاء وفيها كذلك التّكبيل واستحالة السّفر أي الانطلاق إلى فضاءات أرحب..
تعبنا من السفر…
تعبنا
وما استقرّ بنا الترحال
وما حلمنا
سوى بقبلة عند اللقاء
إنّها رحلة الانسان عبر متاهات الحياة ودروبها المتشابكة إنّه قدر الانسان الأبدي أن يعيش تقلّبات صروف الدّهر وأن تشمل حياته صفحات مضيئة وأخرى قاتمة وهذا ما يؤرّقه ويكدّر عيشه فهو كالرّيشة في مهبّ الرّيح لا يكاد يستقرّ على حال حتّى تعصف به الأقدار الى مسارات أخرى وحياته تلك هي سفر مضن وشاقّ ومتعب:
” تعبنا من السّفر…تعبنا “
إنّ تكرار اللفظ: “تعبنا” فيه دلالات واضحة على الصّراع الضّاري الذي يخوضه الانسان لبلوغ حالة الاستقرار بكلّ معانيه وهي تحقيق السّكينة وراحة النّفس والعيش الرّغيد والسّعادة الأبديّة ولعمري فإنّ تلك الغايات المنشودة هي صعبة المنال بل ربّما يستحيل تحقيقها في أغلب الأحوال وبذلك فلن “يستقرّ التّرحال” ويتواصل سفر الانسان يحدوه أمل الغد المشرق وتكتنفه أحلام الظّفر بمبتغاه:
“وما حلمنا سوى بقبلة “
بما تحمله القبلة من رمزيّة ومن مشاعر سامية كالحبّ والصّفاء والسّلام والحنان وفي الجملة هي اتصال روحيّ يسمو فوق كلّ غريزة.
الناقد المولدي عـزوز المهدية
في 04 / 03 / 2024
الناقد المولدي عـزوز المهدية