قراءة نقديّة في ديوان “أحضان الوجع” للشاعرة هدى عزّ الدين
بقلم : د. دورين نصر
-×-×-×-×-
توظّف الشاعرة هدى عزّ الدين في مجموعتها الشعريّة “أحضان الوجع” العبارات والكلمات بطريقة تأخذنا فيها إلى المنزلق الذي تؤسّسه في لعبها البارع ودأبها للتواري، وكأنّها تقيم في الغياب. فيشعر المتلقّي بأنّ المعنى في خطر، وهنا لا بدّ أن نسأل: أين هو الموضوع وكيف تشكّلت اللّغة في نصوص المجموعة؟
يبدو الأسلوب في هذه المجموعة نبعًا أساسيًّا للمعنى، إذ يبدأ اللّعب منذ النّصّ الأوّل:
جرى الخوف خلفه
ارتعب السّراب
كأنّه تعريف للتغييب، وتمويه للطريق، علمًا أنّ اللّعب خطير؛ استنادًا إلى دريدا، اللّعب يقوّض المعنى، ويجعل النّصّ أكثر قابليّة على الانفتاح، ما يتناسب مع الشّعر الحديث.
تقول الشاعرة:
ربّما صوتي المثرثر داخلي
يرتّب خطّة لقتلي
يتداخل صوت الشاعرة مع صوت المتكلّم في القصيدة، ويتفاجأ المتلقّي بجرس الماسنجر الذي أدّى وظيفة المنبّه في إيقاظ الوجع إذ تقول:
رنّ جرس الماسنجر
لعلّي أستطيع إرفاقَ الحياة
ببعضٍ من أحضان الوجع
ويتشظّى المعنى في النّصّ الثاني: “أصابع أكلها الحبّ”، وكأنّه لا يمكننا العبور إلى قلب المعنى من دون جمع الشظايا المتناثرة، ما يحيلنا إلى الفيلسوف آكسيلوس الذي يقول: “لا يمكن اختراق المرآة دون كسرها”. لكن ما الذي نُبْصره، ما الذي يمكن أن نبصره في قعر المرآة أو في شظاياها؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي فكّ شفرات النصّ وملء الفراغات الموجودة فيه، وقد أوكلت هدى عزّ الدين هذه المهمّة إلى المتلقّي.
تحاول الشاعرة في هذه القصيدة أن تخرج من أناها الفرديّة لتتماهى بالأنا الجماعيّة:
ماذا لو مَسحنا الحَجر
بجنين القسوة
ماذا لو مَسَحنا الفراغ
بطرف ثوبٍ أبيض
وعلَّقْنا القلوب على باب
تاجرٍ، خطّ الأسعارَ
بقلم الكرم
هذه القصيدة لا تلبث أن تسير في دروب متشعّبة، فلا تلتقي نقطة الوصول مع نقطة البداية ويشعر القارئ أنّه في متاهة أو (Labyrinthe) إذ تُنهي نصّها قائلة:
فقدني الكلامُ
نامَ قليلاً على طرف دُنيا
كطلفة عجوز تأكل أصابعَ اليأس
هذه النزعة التشاؤميّة التي سيطرت في نهاية القصيدة هي شعور “المتكلّمة” بالغربة في هذه الحياة، وكأنّها تحاول من خلال “فعل الكتابة” أن تنتصر على الوجع، وتسحق القهر الذي يستبدّ بحياتها. فتتحوّل القصيدة معها إلى لوحة سوريالية، الاندغام في معانيها ناتج عن المفارقة والصور المدهشة التي تكسر أفق التوقع عند المتلقي.
الشاعرة هدى عز الدين
والواقع، إنّ الماضي حاضر بقوّة في نصوص المجموعة، إذ تقول في نصّ “رسائل الروح”:
“في درجي أثر شيطانِه
سطورالزّمان على جانب الورقة”
بعد هذه المقدّمة، يتوقّع القارئ أن تنساب في القصيدة نغمة رومنسيّة غنائيّة، لكنّ هدى عزّ الدين لا تداوي الجرح بالدموع، بل بالتمرّد على الواقع الأليم، ما يُرغم المتلقّي أن يبقى في حالة يقظة وكأنّه في غابة، لا يعرف ما الذي يداهمه من جهة اليمين أو جهة اليسار.
الأرض مدّت يدها بخبزها المسموم
قلّمت سواعد الثقة، أكلت البطون
الذئب صديق الراعي
الصمت قتل الصبر
ثمّ تردف قائلة:
رسائلُ الروح تنوحُ
تفوح بالغضب
شهوة البكاء عاربة
مزّقت ثوب النقاء
المفارقة في هذه القصيدة أنّ هدى عزّ الدين تمرّدت على الحنين، وابتعدت عن الميوعة العاطفيّة، ما يدفع القارئ للاستجابة مع حالة الثورة والغضب التي تسيطر على القصيدة وليس مع حالة الحنين. وفي هذا الصّدد أتّفق مع ريفاتير و جيرالد برينس (Gerald Prince) بأنّ المعنى الأدبيّ يكمن في لغة النّصّ، ما يستدعي وعي القارئ بالنّصّ. والواقع، إنّ هذه القصيدة تحاكي قصيدة “كَسرُ قيود”، إذ تستهلّ الشاعرة نصّها بما يلي:
“تنوح مخيّلة الإياب على أبواب التحدّي
الكتاب تحت شجرة الحنين
صوتُ الرّخاء مبحوحٌ
يئنّ الناي ويموت الراوي مذبوحًا”
أن يموت الراوي مذبوحًا هي محاولة لإزاحته خوفًا من كشف المسكوت عنه. فتُغيّر الكاتبة دلالات الألفاظ وتلجأ إلى الانزياحات بغية إخفاء الحقيقة، إذ تقول: “العيون تحت نِعال الفضيلة / النحل أذاقنا العسل بشربة سُم / رشفة غدر الإحسان…)
تتشكّل اللّغة في هذا النّصّ من خلال المتنافرات المتجاورة، ما يحدث جماليّة على صعيد التلقّي، وقد تجلّت قوّة المفارقة من خلال المتعة التي أحدثتها في المتلقّي. وإذا كانت غاية المفارقة أن تُحدث توازنًا في النّصّ، انقلبت المعايير في قصائد هدى عزّ الدين، إذ نتبيّن هذا التوازن القلق الناتج عن حالة القلق المهيمنة عليها. تقول في نصّ “حياة مومياء”: “الحقيقة المقتولة بسيف الاستبداد”. إنّها القيود الاجتماعيّة التي تقف عائقًا في حياة الشاعرة ما يؤدّي إلى دمج الوعي الاجتماعي بالبنية الشكليّة للنّصّ، فتنادي رجل العشق قائلة:
“يا رجلَ العشق النازق
أنتَ بوادٍ مسحورٍ
أقيمُ جبالَ الحبّ
ببحرِ الرّمالِ المتحرّكة
وحروفِ الوهِن القويّة
تبني قاعدة الشتاتِ
حالة الشتات تُهيمن على النّصّ، وتنعكس على النسيج اللّغويّ المبني على مفارقات لفظيّة ولغويّة منوّعة. فتقوم بالتالي فنيّة الشعر عند هدى عزّ الدين على الازدواج:
من جهة، الارتماء في المجهول والمجازفة بالمعنى وإطلاق العَنان للتخمين، ومن جهة ثانية اعتماد المتن المنسّق حيث التوالي الدلالي، لكن الذي يقود المعنى نحو الحيرَة وأحيانًا نحو أفق التيه.
ولا تتوانى الشاعرة أن تستحضر الموروث الديني في نصوصها الشعريّة، ما يُساهم في نقل القصيدة من حالتها الخاصّة وأفقها الضيّق إلى حيّز أكثر شموليّة. وكأنّ قصيدة “مات الشاعر” تمثّل درب الجلجلة، فالصبيّة المُغتصبة تنتظر يد المسيح أن يمشّط شعرها، وهي بذلك تنتظر الخلاص.
وتُطلق الشاعرة العَنان للمجاز، لكن المجاز في نصوص هدى عزّ الدين هو العبور إلى ضفّة جديدة للمعنى، هو آلة التحويل وبناء المُفترض أو الممكن الغائب. فالشاعرة حتّى في اعتماد المجاز تستبعد الصورة المكتملة لتبني الحركة بغيابها، بمفترضاتها. أمّا الانفعالات والأخيلة فقد أوكلتها للقارئ. تقول في نصّ “هذيان”:
“ما أنا إلاّ ذئبٌ
صنعته يدُ الدّنيا”
“ما أنا سوى أنثى
ركبت قطار الغرور
وقطعت المسافات
بأقدام الكسلِ والعَجز”
فالقارئ يشارك مشاركة فعّالة في خلق المعنى، إذ يشعر أنه يعيش تجربة أثناء القراءة. وفي هذا الصّدد نتساءل: هل علينا أن نزيح النّصّ الشعريّ من مركز الاهتمام النقدي لتحلّ محلّه فاعليّة القارئ الإدراكيّة؟ ما الذي تعنيه هذه القصائد؟ وكيف يكوّن القارئ المعنى؟
فنحن لو أردنا أن نرصد الحقل المعجميّ للألفاظ المهيمن على المجموعة يمكننا أن نصنّفها تحت عنوان التمرّد والدم. إذ تتواتر المفردات التالية: (دماء، الحرية، دم، ذبح، ثورة، التمرّد، معصية، فتنة، نزف، الفأس، المبتور، أنين، زفير، يجلُد، سوط وغيرها).
ربّما لا يتّسع المجال إلى إحصاء كلّ هذه المفردات، بيد أنّ هذا الحقل المعجميّ يَصلُح أن نوظّفه للتنكيل والتعذيب، ويخالف الرقّة التي تتّسم بها المرأة عادة. وهو إن دلّ على أمر، يُظهر صلابة الشاعرة الداخليّة التي ترفض الرضوخ والاستسلام. وكأنّها معنيّة بقضيّة المرأة في ظلّ بيئة مكبوتة. لذلك نجدها تدمج ذاتها بذات أخرى، حتّى يشعر المتلقّي بأنّه غير قادرٍ على فهم هذاهالذات خارج سياقها الاجتماعي.
أحببت في نهاية هذه الدراسة أن أعرّف الهذيان عند هدى عزّ الدين، الهذيان عندها هو ما انفلات نهر التعبير في كلّ الجهات.
هذه النّصوص تستدعي في ذهن القارئ الفنّ التجريدي، حيث يغيب التعبير، يغيب الأصل وتغيب المحاكاة والموقف المعلن. هناك غلبة لتفكيك الصور، وحضور المساحات المفترضة والخطوط المجرّدة. وقبل كلّ شيء، نشعر بأنّ الأنا تقف في فضاء تجريدي، إذ تُبنى العلاقات على نسق التوالي، على المفارقة، على التضاد، على الانزياح، على الصدمة، على المصادفة.
كلّ هذا يثير عندي التساؤلات التالية: أين تقيم الشاعرة في هذا كلّه أو أين تختبئ؟ أين يذهب بنا الشعر في هذه المجموعة؟ وهل غاية هذا الشعر اكتشاف اللاوصول وإعادة اكتشاف الغياب؟
الناقدة والشاعرة الدكتورة دورين نصر