أماكن خاصة/ الحلقة 8 :
بيت الحمرا
عند نهاية شارع المقدسي بتقاطعه مع شارع غاندي، والإنعطاف قليلا لجهة اليمين بإتجاه الAUB، في منطقة الحمرا، تجد نفسك، أمام بناية عملاقة، فيها رائحة الستينيات. فيها رائحة البحر. تعبر إليها من فوق حديقة الجامعة الأميركية. من بوابتها الأخيرة. صعودا إلى كلية البنات عبر شارع غاندي وشارع السادات. إنها “بناية السفري”. تلك التي بناها، صوايا ومفرج. كان المهندس صوايا، قد بناها ضد الزلازل. وقد مرت عليها، جميع زلازل بيروت، وما هزتها. كانت حقا أقوى من جميع الزلازل.
في العام2016، نفد الصبر عندي، من البقاء في طرابلس. كنت كثير التردد إلى بيروت. كان شارع الحمرا وجهتي. وكانت شلل الأصدقاء فيه تشدني. فوجدت نفسي فجأة، أبحث عن سكن في هذا الشارع المغري.
خرجت يوما من مقهى الكوستا، بصحبة الصديق القديم، نبيل فرج، في جولة على الأقدام، في شوارع الحمرا. فوجدنا أنفسنا، أمام عمود بناية، عليه إعلان بسيط لبيع شقة. وفيه رقم هاتف مكتوب بخط اليد.
توقفنا فجأة تحت هذا الإعلان. أشار إلي صاحبي، أن أقوم بالإتصال بالرقم المذكور. لكنني ترددت. فبادر صاحبي للإتصال. ودخلنا فجأة ، بعد عشر دقائق إستئذان، إلى الشقة. كان الدخول. وكان الخروج. أذكر أننا : صاحبي وأنا، عدنا فوقفنا أمام مدخل البناية بعدما خرجنا من البيت. كنا نتأمل، في جنباتها. في عمدانها. في الدرج الموصل إليها. في بهوها الشاسع، كأنه بهو باخرة عظيمة، فيه جلال التاريخ. فيه جمال البناء الذي كان يشاد، في ذلك الزمن الجميل.
كان الصديق الآخر في مقهى الكوستا، قد حادثني، بكيفية الإستعانة بالبنوك، لإتمام عملية الشراء. راجعت أبنائي جميعا. وصدقتني منهم صبا. فهرعت أتمم عملية الشراء على إسمها، لأني كنت في سن، لا يتوافق مع الشروط التي تضعها البنوك، لأجل القروض السكنية. حضرت إلينا من ميامي بأميركا. إصطحبتها. رافقتني بك هدوء وتؤدة. دخلت معي. دشنت البيت. وافقها. وافقت عليه. ووقعت العروض والشروط. ثم غادرتنا بعد أسبوع.
أذكر أني كنت كثير التلهف، للنوم في بيت الحمرا ببيروت. كانت الأعمال والأشغال وكذلك التجهيزات، كلها تؤخرني، عن البيات فيه. وحين أصبح جاهزا، بعد خروج العمال منه، بإشراف أبو ريان؛ نزلت إليه سوسن بصحبة إحدى العاملات. جعلت بلاطه يلمع. جعلت كل شيء فيه، في مكانه المناسب. فأسرعت إليه وحدي من طرابلس. بت تلك الليلة، تحت سقف بيت الحمرا، في خريف العام2017. وكان شتاء ذلك العام، أكثر من جميل.
كانت عبير، تأتينا بالتجهيزات وبالمفروشات من طرابلس. وكانت أم مصطفى، ترتب وتهذب وتشذب أغراض البيت. وكان محمود، يأتينا في السهرات القصيرات. يمضي أواخر السهرات عندنا. وكثيرا ما كان يرغب في البيات عندنا. وفي بيت الحمرا، كان تعارفنا مع سيما. أذكر أيضا قدوم مصطفى وعائلته من ألمانيا إلى بيت الحمرا. أمضى تحت سقفه، عشرة أيام. كانت فرصتي فيه، لجمع جميع أطراف العائلة المشتتة، في طول الأرض وعرضها. بين آسيا وأوروبا وأمريكا.
كان ريان ودانيال، أول من أطلق عليه إسم بيت الحمرا. كان فرصتهم للحرية. وكان فرصتنا للقاء الأحفاد وزرع الورد،في السقف و فوق الجدران. . كان بيت الحمرا حقيقة، ملعب الأحفاد. يمتلئ بهم. ببسماتهم بضحكاتهم بلهوهم. ببكائهم. ينفحون فوق أساسه الآهات والبسمات.
ذكرت يوما للصديق العميد أحمد علي، أني أبحث عن بيت في الحمرا فقال قاطعا جازما: ليكن تحت شارع الحمرا.لا فوق شارع الحمرا. فجاء بيت الحمرا، على رأيه. حيث مستشفى الجامعة وحيث الجامعة الأميركية. وحيث حديقتها الأخاذة. وحيث شارع بلس. وشارع المكحول. وشار الصيداني. وشارع المقدسي. وشارع عبد العزيز. حيث الوجه من الحمرا.
من بيت الحمرا، سافرت إلى فرنسا. من بيت الحمرا، سافرت إلى ألمانيا. ومن بيت الحمرا، كنت أنطلق في تجوالي النهاري، بين شوارع الحمرا. بين مقاهي الحمرا. كانت أرصفة الحمرا تأنس بي، تماما كما آنس بها. ثم جاء “عصر الكورونا”، فصارت بيروت كلها تحت أجنحتنا. وكنت أتسلل إليها، تحت أجنحة الحمرا.
كنت أنطلق عصر كل يوم بصحبة الأستاذ مهدي، إلى الأشرفية. إلى النهر. إلى برج حمود وشارع أراكس. إلى الدورة. إلى النبعة وسن الفيل. إلى الجميزة. كانت لنا إستراحات طويلة هناك، على المقاعد، أمام المحال المغلقة.
كنا نذهب أيضا إلى رأس النبع. إلى حرج بيروت.إلى المتحف، إلى البربير. كما كنا نجول بإتجاه الأونيسكو، وصولا إلى الأوزاعي وخلدة، وبئر حسن والكولا، بعد الرملة البيضا. كنا نغذ السير لساعات طويلة معا: صاحبي مهدي وأنا، إلى الزيدانية وشارع مدحت باشا وشارع مار إلياس، وصولا إلى برج أبو حيدر وبربور. ثم نلتف. ثم ندور. ثم نعود من حيث غادرا، إلى الحمرا. هو إلى مسكنه في الإيليزيه بشارع عبد العزيز، وأما أنا، فإلى بيت الحمرا.
كان بيت الحمرا، فرصتنا العائلية إلى حديقة الجامعة الأميركية. منحتنا بطاقة الدخول لزيارتها، متى شئنا. نذهب إليها عصر كل يوم. نجول في باحاتها الخضراء. نجلس على مقاعد الطلاب، قبالة البحر، في جميع الأماكن المطلة، على البحر، أو الملاعب، أو المساحات الخضراء. كنا لا ندع مؤتمرا يفوتنا. ولا لقاء عاما بين مبانيها، إلا ونهب إليه، لأننا كنا نشعر بقربنا إليه. وأنه يعبر عنا. فنعبر من بيت الحمرا، إلى المؤتمرات، وكأنها خلف بيت الحمرا. كانها حلف بيت الحمرا.
كان أبو محمود قيسون، يسكن في عين المريسة. ننزل إليه. نزوره. ونتمشى على الشاطئ الجميل بصحبته، من الميناء حتى الحمام العسكري. كان شاطئ رأس بيروت، جزءا من نشاطنا المعتاد، عصر كل يوم. كانت جميع حاجاتنا بين يدينا. كانت أم محمود قيسون تقول لنا: أجمل ما في الحمرا، “التخديم” في الحمرا. جعلت الحمرا، حوائجنا جميعها، في خدمتنا، لقربها منا. لقرب حصولنا عليها. لأنها في متناول الأيدي. لأنها تحت أيدينا.
كنت، في الأماسي، كما عصر كل يوم، مولع بأن أكون مع ريان ودانيال، على البحر، في الرملة البيضا، أو في عين المريسة أو في السان جورج، او قبالة صخرة الروشة. وربما في جميع المنافذ البحرية المتاحة للمتنزهين. من الكبار والصغار والمسنين. كان ريان ودانيال سلوى الروح والقلب، في غياب الأبناء عن الآباء. كانت رؤيتهم نبض قلب. كنا نذهب معا، في شارع الحمرا، والمقدسي الصيداني وجاندرك. كنا نلعب معا، على ملاعب الAUB. نقطف العشب معا. نزرع في أيدينا، وفي ملابسنا، خضرة النبات على أديمنا. نزرع في عيوننا زرقة السماء. زرقة البحر. نقطف من الأفق. من المدى الواسع، بعض شالات من الغيمات، عندما تكون فوقنا. عندما تحلولى لنا.
بيت الحمرا، صار دنيا عائلتي، ودنيايا معا. ففي جدرانه بعض آهات وأنفاس، جميع أبنائي وأحفادي. أما صبا فما زارتنا، حتى الآن، بعد. طبعت على جدرانه. على عتباته. على مدخله. على بابه، طينتها. ولا تزال طينتها تساكننا، كلما تقلبنا. كلما خطرت خاطرة لنا. حالنا حال شاعر، مضى:
يبكي ويضحك لا حزنا ولا مرحا/
كطائر خط سطرا في الهوى ومحا.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين