جدران الصمت
ليست ثمة قصة أو رواية أو قصيدة، أو أي عمل مسرحي، جعلني أدرك معنى الصمت العميق، أكثر من الكاتبة ميرنا الشويري، في عملها: (مطر خلف القضبان،دار نلسن، بيروت، ط١، ٢٤٠ ص: 2022) . تحفة روائية متكاملة الأركان، تركت بصمة قوية في نفسي، أكاد لا أنساها في حياتي كلها. علمتني معنى الصمت العميق، الذي لا يقول شيئا، ويقول كل شيء.
رواية ميرنا الشويري، الكاتبة والباحثة والروائية والجامعية، فجرت القيمة الرفيعة للعمل الصامت. للعمل بصمت. للسجن بصمت. للموت بصمت. وهي تكاد تلامس نوعا من التسجيلات الروائية ل”سيرة ما”، عبر تطواف صاحبها، في جميع مراحل حياته الشخصية والمهنية المتعاقبة. تقول في الفصل السادس: “غرق لا يغرقني: ص55”:
“أستلقي على شاطئ صخري. امواجه المرتفعة لا ترحم. أشعر بتكسرها على جسدي. أصرخ. أحاول أن أبتعد عنها. لكن لا تسمح لي وكأنها تريد أن تفتت جسدي. يا ليتها تعرف بأنني لست صخرا. لكنها لا تهتم. والحياة، لا تترك يدي. حتى الغرق لا يغرقني”.
تمثل الروائية في صياغتها المعاصرة، وفي توقيعاتها اليومية، علاقات القوة في مجتمعنا المعاش، كنموذج لسائر المجتمعات التي تسود فيها، ما يعرف بالرأسمالية المتوحشة. بحيث تعمل على تحليلها المعمق للصراعات الإجتماعية والثقافية والإقتصادية، التي تتحكم بمصائر الأفراد. إنها تسجيل للسياسة والقوة. لما تشي به دينميات صناعة الأحداث المعاصرة، داخل مؤسسات الحكم والسلطة. تقول الأستاذة ميرنا في الفصل العاشر ، جدران الصمت، ص147: وقف والدي أمامي، وهو يرتجف من البرد. صرخ بأعلى صوته لأساعده. ولكن فجأة إنشقت الارض. فسقط وإختفى. بدات أصرخ وأبكي. ولكن لا جدوى. وإذ بي أسمع صوت بكاء طفلي. وقفت كالمجنونة. ورحت أفتش عنه. فرأيته يقف بقرب شجرة وحيدا وخائفا. إقتربت منه لأحمله. لكنه زاد بكاؤه خوفا مني، وكانه لم يعرفني”.
تؤهل رواية الكاتبة ميرنا الشويري لمعرفة قرائها، بالوقوعات اليومية. وتسهل لهم سبل إستلال قواعد معينة، لتحليل أوضاع سياسية معاصرة، وإنعطافاتها السياسية والثقافية. لكن المفارقة، أن صاحبة الرواية لم تكن في يوم من الأيام قريبة من السلطة، أو من مراكز القرار، ولم تلتق في حياتها، بمن يمثلون، أحزابا ونظما وهيئات، وشت لها بما يحدث، داخل الجدران، وفي الأروقة، وفي غرف التحقيق، وفي الزنازين القهرية والعينية على حد سواء. تقول في الفصل الثامن عشر: “في رحم السجن”، ص173:
لا اعرف كم ساعة مضت وأنا ارسم على حائط غرفتي بحرا وأمواجا عالية. إحداهن تلامس السماء الزرقاء. متى ستنتهين؟ نحن إنتهينا من تحضيراتنا. قالت لينا صباغ. حسنا سأنتهي.”
لا شك أن وراء رواية الكاتبة ميرنا الشويري هذه، ظروفا أملت عليها بعض العناصر، وبعض التفاصيل. غير أن شغفها الروائي، هو الذي جعلها تحلق بخيالها، وتزجي الوقت في مكتبتها، مسحورة بعناصر روائية تحتشد في نفسها، فتدفعها لتسجيلها، فتتغير إشارات الوقت عندها. وتمضي الساعات بها، متنقلة بين فصول عملها، حتى لكأنها لا تشعر بمرور الزمن عليها. أو حتى لكأنها “بنت بجدتها”. تقول الكاتبة في مطلع الفصل الأول من روايتها: ” أسمعك من دون أذني- ص٧”:
أسمعك، أسمعك أكثر من دون أذني. وأراك أكثر من دون أن أراك.قل لي ياهذا، كيف لك أن ترحل، وتتركني أغرق في صمتي ووجعي وضياعي؟ من أنا؟”.
في واقع الحال، لا بد أن الروائية الجادة ميرنا الشويري، تغرف معانيها من بحور عميقة: بحور الحرمان. وبحور الحصارات. وبحور التحقيقات، لدى مختلف أنواع السلطات التي هي على معرفة بها، من خلال صمتها العميق، حين تقف عليها. وهي لذلك، تناور عليها بالكتابة. تجسد صمتها داخل جدران البيت. وداخل جدران الزنازين. وداخل جدران المجتمع. وداخل جدران الإدارات، أقول : تجسد صمتها هذا، في عملها الروائي فصلا فصلا، حتى لتكاد تبلغ 25 فصلا.
تراها تكتب فتقول: أسمعك من دون أذني، كما تكتب: من خلف القضبان. وتكتب أيضا: عالم ليس لنا. تكتب: صلبي في عيد الميلاد. وصمت الحب. وغرق لا يغرقني. ومطر صامت. وجثة هامدة. ووهم موجة. والحية. ونجمة العشق.. وأمنية. ومطر النجوم. وجدران صامتة. وبكاء المطر. وشعاع إلهي. ورقة المطر. وفي رحم السجن. وصمت وجدار. ونور. وجسد بلا روح. وإنعتاق. والياسمين. ونراها، تختم فصولها الأثيرة والأخيرة، بفصلين متميزين، تحت عنوانين: الرحيل. والكوخ. تقول في الفصل 25، الكوخ: ص 211:
مرت الشهور وأتى الشتاء الذي كان يصفه أنور بالفصل الذي يرسل فيه الحب.”.. وتضيف: ارسل لي ليخبرني بأنه يبني لي كوخا كما وعدني، على أرض يملكها، حتى نلتقي. مع أنه لم يكن واثقا أننا سنلتقي. ولكن لم يستطع رجل العشق والأحلام أن يفارق عشقه، وكأنهما واحد. فكيف له أن يقتل هكذا عشق، وكأنه عمر عشقه من عمر الحب.”
الكاتبة ميرنا الشويري، وهي من مواليد بلدة الشوير العريقة، أكاديمية وجادة. سبق لها أن نشرت عدة أعمال: بغداد- براغ 2009، وحياة وهم- 2015. والحب يرى-2018. كما تميزت بمقالاتها ومحاضراتها وبأعمالها البحثية ذات الطابع الأكاديمي، بحكم تدريسها الجامعي.
ويأتي عملها الأخير هذا: “مطر خلف القضبان”، ليؤكد عمق تجربتها الروائية والكتابية والبحثية، ناهيك عن تجربتها الثقافية العميقة المؤثرة للغاية في قرائها.
تبدو رواية ميرنا الشويري ، نتاج سنوات طويلة من العزيمة والإصرار ومقارعة الأدب والقراءة المكثفة. وهي لذلك يمكن لها أن تصبح راوية من ألمع الروائيين، والروائيات أيضا، إذا ما إستمرت على نهجها الدؤوب في الكتابة والرواية. بحيث يشار لها بالبنان.
هناك عوامل عديدة ساهمت في إلهام الكاتبة الواعدة ميرنا الشويري. ولا بد أن يكون الولع بالوقوف على الأحداث، وتتبعها، والإنغماس فيها، لمما كان يزيدها عمقا ووعيا وإصرارا، ولو داخل جدران الصمت، لهول ما ترى، من مجريات الأحداث، التي تجرف الوقت، وتهيل على ضوضاء معاركه، تراب الزمن، وتحجر عليه، داخل جدران الصمت. إسمعها تقول على لسان إحدى بطلات روايتها، في الفصل الحادي عشر: “نجمة العشق” ص117: “ماري تعالي فورا. أمك وقعت، وكسرت يدها. أخذتها إلى المستشفى. وجبروا لها يدها. هي الآن في البيت.”.. ثم تضيف: “أرجوك خذني إلى البيت، والدتي كسرت يدها.” قلت له بتوتر. في طريق عودتنا حاول انور تهدئتي. ولكن لا جدوى. لأنني لا أتحمل أي مكروه يصيب أمي”. (ص126.)