بدعوة من د. مها خير بك ناصر، مؤسِّسة جائزة حسّان ناصر للإبداع، اجتمعت مساء يوم الأربعاء الواقع فيه 22/12/ 2021 اللجنة العلميّة التحكيمية عبر تطبيق ” زوم ” و المؤلّفة من:
الدكتور جورج سعادة-لبنان
الشاعرة فاطمة بوهراكة-المغرب
الدكتورة أمل لواثي – الجزائر
الدكتور عبد الرحيم الكردي- مصر
الدكتور محمود الضبع- مصر
الدكتورة رجاء أبو علي- إيران
الدكتورة خديجة شهاب الدين-لبنان
الدكتورة درية فرحات- لبنان
أدارت النّدوة الشّاعرة المهندسة ميراي شحاده وشارك فيها الأدباء الشباب الذين تراوحت أعمارهم بين العشرين والخمس والثلاثين سنة , وتناولت الندوة موضوع المسابقة الأدبيّة في الشعر والقصة القصيرة، الذي كان محورها : “انفجار مرفأ بيروت والوجع الوطنيّ والإنسانيّ”.
الفائزون :
وأعلنت اللجنة أسماء الفائزين بعد قراءة نصوصهم كاملة , وهم ;
المرتبة الأولى: زكريا حيدر عن قصيدة “بائع الحزن”
المرتبة الثانية : حسين ابراهيم عن قصة “المرفأ الحزين”
المرتبة الثالثة: وحيد حمّود عن قصة “الإرهاب لا دين له”
القصيدة الفائزة بالمرتبة الأولى
للشاعر زكريا حيدر :
” بائع الحزن ”
يا بائع الحزن
لا تطرق منازلنا
إنّا ملأنا جرار القلب أحزانا
مدينة الموت
تمحونا على مهلٍ
كأنما الفرح
في دنياه ينسانا
لا الهمّ يغفو
لكي ننسى مرارتنا
ولا السماء تزف الدمع أجفانا
نوافذ العمر
للآهات مشرعةٌ
والليل جرحٌ
إذا بانت له بانا
والليل حبٌ ضرير الدرب
قد فقأت أشجانه السود عينيها
فأعمانا
كأنما الدمع
في أيامنا قدرٌ
مذ أشرق الصبح في مأساتنا
كانا
يا بائع الحزن
ماذا قد تبيع لنا؟
ذكرى انكسارات
أم جرحا لنا هانا
هذي المدينة
سوداء ملامحها
تحيك بالوهم للأحلام أكفانا
عد حيث جئت
وخذ منا قصائدنا
فليس للشعر
في أحزاننا شانا
واترك لنا اليأس
كي نحيا بخيبتنا
فاليأس صار
لمرضى الحلم سلوانا
االقصة الفائزة بالمرتبة الثانية
للكاتب حسين ابراهيم :
( أهدي هذه القصة إلى روح الشاب حسان ناصر.
رحمَهُ الله وأسكنَهُ فسيحَ جناته.)
عنوان القصة ” المرفأ الحزين”
في المرفأ الحزين، حيث تنتحر الأماني وتترمَّد الأشواق… أقف، فوق ضفَّةٍ صغيرةٍ، تتوسط ضفتين عملاقتين. أنظاري مثبَّتةٌ على البحر: الشمسُ تحتضر، والنوارسُ تُرسِل للأمواج قبلاتِ الوداع. القواربُ مدائنُ من الصمت، ترتحلُ في دنيا المغيب. يبدو أننا قد دخلنا في موسم هجرةٍ طويل.
يمر شاب بقربي. يتوقف لحظةً. يسألني إن كنت أملك سيجارة. أجيبُهُ بالنفي، فيستديرُ ويتابعُ سيرَه. على قميصه من الخلف رسمةٌ وكلماتٌ فاقعةُ اللون، لا أكاد أُبصِرُها، حتى يلتفتَ عائدا صوبي. يقف جانبي. يمعن النظرَ في البحر. ثم يسألني وعيناه تسافران مع الأمواج:
_ ما وجهتُك؟
لا أفهم قصدَه. يعيد السؤال:
_ إلى أي بلد مسافر؟
_ لستُ مسافرا.
_ ولماذا تقف هنا؟
_ أحب أن أتأمل البحر من هذه النقطة. أراه مختلفا هنا.
يبتسم ابتسامة غامضة، وعيناه ما تزالان تتمرجحان مع الأمواج.
_وهل أنت مسافر؟ أسأله. فتتمغط الابتسامة على وجهه، ويكبر الغموض في عينيه:
_ نعم…
_ أين حقيبتك؟
_ جسدي حقيبتي…
_ إلى أين؟
_ أفريقيا.. كندا.. هونولولو.. لا فرق. المهم أن أرحل.
_ والوطن؟!
أقذف بسؤالي في وجهه ووجه الأمواج، دون أن أدري إلى من وجهتُه بالضبط. فتتحولُ ابتسامتُه إلى ضحكةٍ هستيرية. يصمت بُرهة. يفترس البحرَ بمقلتيه. ثم يستدير صوبي فائرا:
_ مزبلةٌ لا تليق بنا… عاهرةٌ ابنُ عاهرة…
_ الوطن؟!
_ حانوتٌ للزناةِ والمقامرين… يُقيمونَ فيه كلَّ ليلةٍ حفلاتِ الدّعارة…
_ الوطن؟!
_ توابيتُ من الليل المدمَّى… نرتِّل فيها بصمتٍ أناشيدَ الهلاك..
وأظلُّ أسألُه بتعجِّبِ مغتربٍ يزور وطنَه للمرةِ الأولى:
_ الوطن؟!
لكنَّ أجوبتَه لا تنفكُّ تقصف بالشتائم، كمدافعَ قضت دهرا تنتظر أن تُفرغ ما في جوفها من ذخائر:
_ كلابٌ… عبيدٌ… حمير…
وبالرغم من كل هذا الحقد الذي يتفجَّر منه، غيرَ أنني ألمح في عينيه مزيجا من الأسف والاستنكار. أعرف أن في أعماقه أجوبةٌ أخرى، لا يرضى بتحريرها. أبقى أُحِثُّهُ وأُحِثُّه. ويُخيَّلُ إليَّ للحظةٍ أن طيفا من الدمع يكاد يُجلي غشاءَ الغموضِ عن عينيه، لكن مُحال… لن يبكي. لن يعترف… يقول قبل أن يتوجهَ إلى إحدى السفن:
_ سأغادرُ جحيمي، أما أنت، فابقَ هنا في وطنِك الجنة، تتأمَّلُ بحرَهُ المُغري…
(ولكن من قال وطني جنة؟!).
_ سأغادر قبلَ حلولِ الليل. قبل اندلاع المعارك. فإني أسمع صدى الأجراس، وأشتمُّ رائحةَ الضحايا.
(ما الذي يقولُه؟!).
يستدير مجددا ويرحل دون عودة. وعندها فقط، أستطيع أن أرى بوضوحٍ الرسمةَ التي تملأ قميصَه من الخلف والكلماتِ ذات اللون الفاقع. إنها أرزةٌ خضراءُ شامخة، كُتِب فوقَها بحروفٍ مبهرجة: “وطني أرزةٌ لا تجرفها العواصف”. ربما لم يلتفت إلى ما كُتب من الخلف، أو ربما يعلم تماما ما كُتب. ربما هو من كتبَ هذه العبارة قبل ان يرتدي قميصَه؛ لأنه لا يستيطعُ التصريحَ بها. لأنه أجبنَ من أن يبوحَ بحقيقةِ مشاعرِه وجها لوجه.
“وطني أرزة لا تجرفها العواصف…”. صدى العبارةِ يرتج في المكان كلِّه. يعاكس الريح. يبدّل حركة المد والجزر. لكنه يخبو فجأة ويتبخّر أمامَ صوتين يكتسحانه بشراسة. صوتين يصدران من الضفتين العملاقتين في آن معا.
من الضفة الشرقية يرتفع صوتُ الكنيسةِ مرنِّما: “يا بنيّ لا تنسَ شريعتي…”. ومن الضفة الغربية يصدح المسجد: “حيّ على الفلاح”. كأني بي أسمعه يرددها أربعَ مرات، بل خمس… عشرُ مرات يرددها: “حي على الفلاح”. هل هو عطل في شريط التَسجيل؟ أم أن الصوتَ ليس تسجيلا، إنما هو صوتُ الله نفسِه، يشق الآذانَ ويغزو الأفئدةَ ليوقظَ الضمائر؟!…
الصوتان يعلوان أكثر فأكثر. يتعارضان. يتشنجان. وكل منهما يحاول ابتلاع الآخر. المكان بأسره يتحول: الريح تشتد. السماءُ تتلبد. الشمس تستحيل إلى رأس محزوزٍ، يتدحرج في الأفُقِ ويصبغُ الوجودَ بدمائه. نزيفُه يُغرق البحر، ويشحن الضفتين بحماسة مُبهَمة. الأشرعةُ تغدو صلبانا منتصبةً وسط مدائنِ الموتى. والنوارسُ تتحول إلى غِربانٍ ملتهبة، تنبثقُ من الضفتين بجنون غيرِ مُبرَّر تغطِسُ في بحرِ الدماء وتتمرَّغ فيه بنشوة. يبدو أن كلَّ ضفةٍ قد أطلقت جيشَها لتغزوَ الأخرى.
تمتزج الأصوات وتعلو كجوقةٍ تعزف ألحانَ الموت والخراب: أجراسٌ تزمجر. غربانٌ تنعق. كنيسةٌ تُجلجل. مسجدٌ يدوِّي. الأصواتُ كلُّها تتداخل لتشكِّل خلفيةً موسيقيةً تتلائمُ والمشهدَ الدموي.
البحرُ ساحةُ المعركة. تتطايرُ فوقَهُ الرؤوسُ وتَغلي فيه الضحايا: “…خلِّني قرب الصليب، حيث سال المجرى…”. يستمر الذَّبح، والدماء تلطّخ المآذن: “الله أكبر… الله أكبر…”. ريشٌ أسود يتناثر فوق أمواج الجحيم، وزوبعةٌ من النعيق والرماد تنفخ بالأشرعة: “…في الصليب راحتي، بل فخري…”. الغيوم تخط بدموعها أسماءً متباينة، تتناحرُ فيما بينِها: “حسين، يسوع، عمر، علي، عائشة، فاطمة، مريم…”. الأسماء تتبدل باستمرار. تنهش بعضَها بعضا. لكنَّ لونَها لا يتبدل، أحمرٌ قانئ.
تنتهي المعركة، والمغيبُ يُعلن اندحارَه. الطرفان كالعادة يخسران، فهما لا يتساوان إلا في الخسارة. تصمت المآذن، وتعود ترنيمةُ “خلِّني قرب الصليب” إلى سكونها الأول وألحانِها المؤنسة. يخيِّم الليلُ بثوبه الأسودِ حدادا، ويرقّعُ المكان بظلاله ونجومِه المضلِّلة. لكنَّ الدماء، وإن حُجِب لونُها، فما تزالُ رائحتُها معشعشةً في النفوس.
هنا في المرفأ الحزين، حيث تنتحر النوارس وتترمَّد الألحان. أقف، فوق ضفة صغيرة. تتوسط ضفتين من الخراب، من الدماء، ومن الجنون. أحدق في الليل المدمَّى، وأرتِّل بصمتٍ أنشودة الهلاك. أكاد أشعر هنا في الوسط، بشيء من الطمأنينةِ والسلامِ الداخلي، لولا صوتُ الحارس الذي مزق السكينةَ صائحا بي: “لا يمكنك الوقوفَ في هذه الضفةِ أيها الشاب، فهي مخصصةٌ للمهاجرين. إن كنتَ باقيا… فعليكَ التوجهَ إلى إحدى الضفتين الأخريين”.
_ حسين إبراهيم.
القصة الفائزة بالمرتبة الثالثة
للكاتب وحيد حمود :
عنوان القصة “الإرهاب لا دين له”
مُمسِكا جريدة الصباح،جالسا أمام البحر يسمع عناق الموج للصخر،تُحَدّثهُ نفسهُ بأن يهجر كلّ ما في هذه الأرض من أوجاع؛هو الذي تآخى مع الألم حتّى ظنّ رفاقه بأنّه فاقدُ الإحساس،يحتار ابنُ الثالثة والعشرين ربيع بأمرِ مستقبله،عاطلا عن العمل كمعظم أبناء
جيله،انحدرت دمعة من عينيه حين تذكّر ريم،تلك الفتاة التي ودّعها إثر تراكم النكبات فوق ظهره.إنّ المرء يكبر ألف عا م حين يرى أحلامه تُقدَّمُ قربانا على مذبح الوطن،مسح الدمعة بسبّابته اليمنى ورفع رأسه نحو السماء قائلا :أنت تعلم يا الله بكلّ ما أعانيه.
أكمل النظر في الجريدة ، وقعت نظراته على خبر خُط بحروف عريضة:الإرهاب لا دين له.
كانت شمس الرابع من آب حادّة رفع قبّعته ليمسح جبينه المتعرّق من أثر الحرّ ، نظر في ساعة يده ، بدأت الشمس تحزم أمتعتها وتمتطي ظهر الأفق مطلقة نيّة الرحيل،كان يعشق هذا المشهد ولم يكن يدرك أنّ ريم ستُزف كما الشمس لبحر آخر غيره،كان كالبحر
صامتا عميقا يمضغ الأوجاع دون أن يتفوّه بكلمة واحدة، دون أن يصدر صوتا حتّى.
رُنّ هاتفه،أمسكه بيمناه فسمع صوت أمّه مناديا :
_حسان ..أين أنت يا حبيبي؟ عُد الآن إلى المنزل،أشعر بأنّ قلبي منقبض،عُد الآن يا حسّان.
طمأنها بأنّه ان ، لن يتأخّر ، لم يكن ليكذب أبدا ،لقد وعد وعده الأخير ولكنّه لم يفِ به هذه المرّة،كثيرون هم الذين لم يفوا بوعودهم بالعودة إلى حضن أحبّائهم في هذا اليوم.
في السادسة إلا خمس دقائق،كانت الدنيا قد أودعت خنزير إرهابها حزامها الناسف بين آلاف وآلاف من شقائق النعمان، ذاك الخنزير الذي قرّر الإنتحار أمام درّة الشرق، أنهى حياة حسّان وألف أدونيس مثله، ولم تستطع عشتروت الشرق ردعه من قتل عشّاقها؛ حسّان
الذي رحل منذ ثلاثة وعشرين عاما في وطن يُلَف به الطفل بالكفن حين ولادته، بُعِث ليرحل ألف حسّان معه.في كُلّ يوم يلبس الإرهاب ثوبا جديدا ،يمشي بيننا، يحكي لغتنا، يبتسم في وجهنا ثمّ يقتل أحلامنا، ويُثكل أمّا ويُفجع أبا ويصبغ البحر بدمائنا.
أدونيس مات، ولم تزل تبكيه عشتروت، وبقي ذاك الخنزير مختبئا ليخرج في كلّ مرة ويقتل أدونيسا آخر.
انطفأت النار، عمّ الظلام المدينة، صرخة مدويّة أطلقتها أرضنا الثكلى وهي ترى وجوه أبنائها غطّتها الدماء ولم تزل تلثم التراب، وعلى آخر بقعة من المرفأ الممزّق كانت الريح تحمل آخر قطعة من جريدة محترقة خُط فوقها : الإرهاب لا دين له.
وحيد حمّود