” فانتازيا الخيال والدَّهشة ..”
دراسة أدبيّة نقديّة حول رواية “العائدون من الغِياب ” للكاتب طلال مرتضى .
(بقلم الباحثة فاتن مرتضى )
-×-×-×-÷-×-×-
يقول أفلاطون : ” إنّ الخيرَ طبعٌ لمن اعتاده ، والشّرَّ مباحٌ لمن أراده “
من هذا المنطلق ،
من هواجس هشيم الرّوح ، كتب الأديب طلال مرتضى روايةً عاشها في عالمٍ أراده جديدًا، ليكون متفرّدًا في سرده ، لأحداثٍ استحضر أبطالها من أعمال غائبين ، حاضرين وخالدين .. أعادهم لنعيش معهم واقعًا معاصرًا .
شخصيّات الرواية :
مس” ماربل” محقّقة بوليسيّة ابتكرتها “أجاتا كريستي”. “الغريب” ميرسولت بطل رواية “الغريب ” ألبير كامو .”سعيد مهران” بطل رواية “اللّص والكلاب” نجيب محفوظ . “بيرت”
إبنة مدام بوفاري من رواية “مدام بوفاري” لجوستاف فلوبير . “جان غرونوي” بطل رواية “العِطر” لباتريك زوسكينر .”كوازيمودو الأحدب” بطل رواية “أحدب نوتردام” لفيكتور هوجو . “طانيوس” بطل رواية “صخرة طانيوس”لأمين معلوف .
ذاكرة الكاتب وثقافته ، شكّلتا الهيكل الأساس ، حيث مضى في ثنائيّة بساطة التّعبير ، وتعقيد الأحداث .الإنسان في الماضي والحاضر ، نقطة الارتكاز . أراد استحضار الماضي لأنّ فيه عِبرة .
بدأ الرّواية في مكان غامض لا نعرف إن كان مشفًى أو سجنًا ، يُحاسب على فعلته من يقرأ كتابًا .. رجال استخبارات ، سيّارات رباعيَّة الدَّفع ، كائن فضائي كما نرى في الأفلام الخياليّة العلميّة.. تظهر شخصيّة مركّبة حسناء _ دلجين شاهدت مقتل جدّها ، ما أدخلها في حالة نفسيّة مضطّربة ، تروي الحادثة بارتباك وهلع كبيرين .. الكاتب كلاعب الشّطرنج يحرّك المجريات والأشخاص بحرفيّة وذكاء مع المحافظة على أهميّة دور كلّ منهم ..
الآنسة ماربل المحقّقة الشّخصيّة الوهميّة في روايات أغاتا كريستي لعبت دوراً فاعلاً حتى نهاية الرّواية ، التي كانت خلطة سحريّة شابها الخيال . لجأ الكاتب إلى التّكثيف وكأنّه يسعى إلى داخل القارئ عبر مسارات السّرد ، الذي يتفرّع إلى قصص تعتمد على الواقع النّفسي والاجتماعي ..من هنا كان طرحه لحيوات مختلفة ، للإمساك بحبل التّشويق ، وإيضاح رؤيته ، يلجأ للآخرين ، يعطيهم ثوب الحداثة، في الطّرح والمُعالجة. التّحدّي الأول في الكتابة عنده “الاستيلاء على انتباه وفكر الآخرين والحفاظ عليهما “كما يقول “وول ستور “. قرأنا حالات الموت والبقاء ، الانتصار والانكسار ..
الأبطال كالأشخاص الذين نقابلهم في حياتنا اليوميّة ، تصرفاتهم مرتهنة ببعض المعتقدات والسلوكيّات .. مزج بين الفنّ السّريالي والواقعي من خلال دمج عوالم الحلم المتشابكة بكوابيس الحياة ، والحالات الإنسانيّة الدراميّة، من داخل مدن بعيدة بأوهامها وهذيانها .. المدينة التي دارت فيها الأحداث “مدينة الكُتُب”، الحدث التالي مقتل الحكيم الذي كان يُحضّر عقارًا لإنقاذ البشريّة ، حُرقت مكتبته وسُرقت بعض كتبها ، كأنَّ الكاتب يسترجع ، حريق بغداد ودور العلم فيها للتخلّص من الفكر والمفكّرين ، وما جرى بعد ذلك من أحداث مشابهة في البلاد العربيّة ، لعلّ القتل نصيب كلّ من يملكالحِكمة ، أو يُحاول الإصلاح .
أحال فوضى الواقع إلى حكاية إبداعيّة توغّل في تشخيص أبطاله لنعيش معهم . الغريب والغُرباء قتلوا الحكيم ، لكن أي سقف يأويهم ؟ الرّجال يأوون إلى دور العبادة ، هناك دور تستقطب الغريبات لتشغيلهنّ كبنات ليل . اجتمع الخير والشَّر ، تقاطعا عند الجّاه والمال . بيرت تريد الانتقام من الرّجال ثأرًا لوالدتها التي انتحرت في قصّة مدام بوفاري . أحدب نوتردام جاء باحثًا عن حبيبته إزميرالدا حين قالوا إنّها لا تزال على قيد الحياة .
تذهب ماربل باسم ” الغريبة” إلى تكيّة الشّيخ الجّليل تلتقي السيّدة فضيلة المُشرفة على المكان . تجد هناك سعيد مهران بطل قصّة اللّص والكلاب “راجل جدع ” ولكنّه مَن أحرق مكتبة الحكيم بعد أن اتّهموه بالكُفر ، سرقوا الكتب التي فيها سرّ العقار ، بأمر من الوليّ الجّليل الذي اختاره الكاتب نموذجًا لمن يدّعون الإيمان ظاهرًا ويمارسون الرّذيلة في حياتهم ، فهو يستغلّ أصحاب الحاجة من الرّجال والنّساء ، قتل فضيلة المرأة المفضّلة لديه ، بعد أن تزوجت من سعيد مهران خوفًا من أن تفشيَ أسراره والدّواء العجيب الذي كان يحضرّه خِفيةً مع جان بطل رواية “العِطر”، حيث كانوا يستخرجون عطورًا نادرة من أجساد النّساء الحسناوات بعد قتلهن . خطفوا الحسناء حفيدة الحكيم ليجرّبوا العقار الجديد عليها .
كتب من قبل الروائي الاسكتلندي “ستيفنسون ” قصّة “دكتور جيكل ومستر هايد ” يصوّر فيها ازدواج الشّخصيّة ما بين الخير والشّر . هذا موضوع قديم ورد كذلك في كتب الأديان .
طانيوس اعتكف في المكتبة صامتًا فاقدًا للذّاكرة بعد أن وقع وارتطم رأسه بحجر إثر خلاف مع جان .
نجح الأديب طلال مرتضى بمزج أسلوب وأحداث القصص العربيّة والغربيّة وكأنّ العالم واحد بشؤونه وشجونه .. حملنا معه إلى عالم الفانتازيا وهي من تجلّيات التّحديث ، تُسمى ” النّزعة العجائبيّة ” إذ كسر المألوف وتجاوز المُمكن ليصل إلى الدّهشة معتمداً على الابتكار ، وتحقيق المُتعة الفنيّة ، تناول الواقع الحياتي للتّعبير عمّا يحدث في هذا العصر من خلال عرض شخصيّات مرسومة بعناية تطوّرت عبر مسار الأحداث . في النّهاية يُسمع في التكيَّة صوت طلقات نارية بعد وصول الجنود إليها . في المشفى المكان الذي بدأت به الرّواية يطلب الحارس من الطّبيب أخذ دلجين والمغادرة فورًا لأنَّ فيروسًا انتشر … اسمه الكورونا .. يحصد آلاف الأرواح ..
٦ أبريل ٢٠٢٠
يقول علم الأحياء التطوّري تمنحنا القصص تجارب بلا مخاطر . طالما عشقنا أن نخلع عن أنفسنا الواقع والحياة ونتركها على عتبات الخيال ،
لندخل العوالم السّحريّة للرواية .. هذا ما يحدث معنا حقًا بعد قراءة كتاب “العائدون من الغِياب “
فاتن مرتضى – كاتبة لبنانية