دراسة أدبيّة تحليليّة في كتاب” لامرأة تصوغ الشّمس عقداً من الياسمين ” د. محمد توفيق أبو علي .
( بقلم الكاتبة والناقدة فاتن مرتضى )
-×-×-×-×-
المرأة هي الأصل ، سبب استمرار الحياة ، تتماثل مع الطّبيعة والأرض ، هي شطر النّفس الإنسانيّة ، أصل الخصوبة ، منبع الخيال والإلهام ، أخذت الجزء الأكبر ، من فكر وأحاسيس الشّعراء ، نجد علاقة مباشرة بين المرأة والشّعر ، في كتابة نصوص أخذتنا إلى عالم الجّمال ، هي محور أساسي لإبداع الشّاعر ، يُعبّر عنها تعبيراً مباشراً ، أو من خلال الرّمز . اختار الأديب محمد توفيق عنوان ” لامرأة تصوغ الشّمس عقداً من الياسمين ” هو عاشق الورد ، اختار منه الياسمين ، ملك الزّهور ، منذ زمان بعيد ، تعلّق قلب العربيّ بهذه
الزّهرة الصغيرة بحجمها ، الكبيرة بما تنشره من طيب ، كتب عنها كثير من الشّعراء ، منهم نزار قبّاني الذي لُقّب” شاعر الياسمين” .
أما الصّياغة ، فهي فن صناعة الذّهب ، والحليّ ، والمجوهرات ، من الحِرف القديمة ، الدّالة على عبقرية الإنسان وإبداعه ، وصبره ، وذوقه الرّفيع ، لنقش الذّهب وصقله .
والشّمس ، هي أول ما لفت الإنسان ، نظر إليها من حيث المعنى الدّيني، وألوهيّة الكون ، اعتقد بوجود إتصال وثيق ، بين شعاع الشّمس ، وعالم الأحياء ،هي الوسيلة لديمومة الحياة، على وجه البسيطة ، جعلوا منها إلهاً عبدوه ، لأنّها مبعث النّور والدِّفء .
يقول كارلوس زافون الرّوائي الإسباني:” كلّ كتاب لديه روح ، روح من كتبه ، والذين قرأوه ، وعاشوا يحلمون به “
جمع د. محمّد توفيق أبو علي الصّياغة ، الشّمس وعقد الياسمين في كتاب أهداه إلى “
سمر كلمة السّرّ بين الشّمس والضّوع “. الكتاب مجموعة نصوص تتوزع بين شعر ، حكايات وخواطر . توزّع الشّعر بين العامودي والحر . استعمل أسلوب النّثر الفني ، الرّمز والومض الموجز .
بدأ بقصيدة حمل الكتاب عنوانها .
لامرأةٍ في عينيّ غفت / حُلماً هانئاً / ومضتْ / تجمعُ أشتات الحقول / مطرُ الكلام ، وخصب الفصول / ولها وَلَهي / ولها وِرد الذّهول ص ١٠ منذ مأدبة أفلاطون في القرن الرّابع قبل الميلاد وحتى يومنا هذا ، ولا جديد تحت شمس ، الحبّ ما زال هو الشّعور المُسكر والمؤلم في آن ، والذي نغرق في عذوبته حيناً ، وبالكاد ننجو من أعاصيره أحياناً أخرى .. أما الشّاعر فقد رأى في حبّه أحلاماً هانئة ، فيها مطرٌ أحيا كلامه ، وقصائده ، تعلّق بحبيبته دون غيرها ، تميّزت بصفاتها المُذهلة ، أعطته السّعادة ، فأصبح كالصّوفيّ ، بإيمانه وولهه بها .
يقول في قصيدة” ورده ”
حين تحدو بمطايا الوجد ورده / بخشوعٍ رتّلي للحبّ وِرده / وتعالي .. فجميلٌ أن يرى / كلّ صبٍّ في لهاث الشّوقِ وِرده / وتعالي دثّريني وَلَهاً / وانسجي لي من أريج الودّ بُرده ./ ص ٤٨
يسمو الحبّ بالإنسان ويُدخله في أجواء روحانية عالية ، يرتّل صلاته ودعاءه للشّوق ، يسترجع الشّاعر صورة إيمانية شريفة حين جاء رسول الله ص إلى السيّدة خديجة طالباً منها أن تدثّره بعد نزول الوحي عليه فوضعت عليه البُردة .. لم يلجأ إلى رجل ، بل إلى أكمل النّساء ، حمته ومنحته غطاء الرأفة والحنان ، وكأنّه يقول للنّاس لا تخجلوا من مشاعركم ، عيشوها ..الحبيبة موضع ثقته واطمئنانه لأنّها تبادله مشاعره النّبيلة . في جناس لافت كتب ورده ، وِرده ، برده . أعطت النّص جِرساً موسيقياً ناعماً ، تطرب له الأذن . وأغنتِ
المعنى . الوَجد مكانه القلب الذي احتلته الحبيبة . يرتبط الحبّ بالإيمان لأنّه شعورٌ مقدّس .
يقول : أطوف في مرايا الوقت عمري/ وأصعدُ من دجى وجدٍ لفجر / تطوّقني المرايا في انكسار/ فأخشع كالمريدِ لوِرد ذكر / وأرتق في مقام الجّذب حالاً / فيجبر في الحنايا كلّ كسر / وتخضرّ الدّوالي في قلوبٍ / تهيم هوى .. بلا خمرٍ وسُكرِ / هو الذّلّ العزيز بلا قناعٍ / هو التّهيام في سرٍّ وجهرِ / ص ٥٣
تقول ميروفيتش :” عدد كبير من الصّوفيين ، لم يكونوا مجرّد نسّاك ، زهّاد ، بل شعراء يتغنّون بالمحبّة الإلهيّة. ” يبدو د. محمّد توفيق واحداً منهم ، المرآة صورة منعكسة لأصل ، فهي تعكس إلى الخارج العالم الدّاخلي للإنسان ، إنكسارها هو المصاعب والآلام التي تواجه الإنسان في حياته . وجد الشّفاء منها ومعالجتها ، كما يفعله المريدون بقراءة الوِرد
وذكر الرّحمن الرّحيم ، فيكون وقته مملوءًا ، بذكر الله ، فيجد ثواب ذلك في الآخرة فتطمئن نفسه وتهدأ مصداقاً لقوله عزّ وجلّ :” وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ ، تجدوه عند الله ، هو خيراً ، وأعظم أجراً ” سورة المزّمل الآية ٢٠ . شبّه الصّوفيّون المحبّة ، بالسُّكر ، لا يصحو صاحبه ، إلّا بمشاهدة محبوبه ، لا يستقيم حاله ، إلّا إن خلُص من دنياه ، وأُخراه ، فلا يكون له مأرب ، غير لقاء الحبيب . هكذا كان “سلطان العاشقين ” عمر بن الفارض ، وغيره ممن سلكوا درب العشق الإلهي ..يعيش الشّاعر حالة الوَلَه بصوفيّة متناهيّة ببعده عن المعاصي واتّباع طريق السّالكين للوصول إلى الرّتبة المشتهاة .
يقول الشّاعر في قصيدة قال فجرٌ للمساء : قال فجرٌ للمساء / هل يشيخُ الوقتُ فينا / أم ترانا نحن والوقت هباء / وبنا تزهو الدهور ؟ / كلّنا يا صاح – إن لم يحونا نبضٌ للقلبِ – / سوف
نمضي للفناء / وحدها تبقى الأماني شاهداً فوق القبور / ودليلاً حين يغشاها النّشور / قال للفجرِ المساء / ص ٦١
يقول يحيي بن هُبيرة : والوقتُ أنفسُ ما عُنيتُ بحفظه / وأراه أسهلَ ما عليك يضيع / شغل موضوع الوقت المفكّرون والفلاسفة ، فهو ينخر الأعمار قبل العقول ، هو أنفاس ، والوقت حياة تمضي .. الوقت يعود إلى ما شاء الله ، لكنّنا نحن نمضي ولا نعود . لنستفد منه ونجعله عامراً بالمحبّة ، والشّاعر هنا كالرّومانسيّين الذين اعتبروا الحبّ ، نوعاً من العبادة ، وسيلة لصفاء النّفوس وتطهيرها ، وهو رأس الفضائل ، وجد فيه الشّاعر وكثيرون غيره ، منبعاً إنسانياً مليئاً بالمعاني الرائعة تحوّلت إلى قصائد .
عن فلسطين السّاكنة في القلب ولها كلّ الحبّ .
يقول في قصيدة “ما لوجدِ الضّوعِ” ؟
ما لوجدِ الضّوعِ يغفو مُتعباً / هل روى الرّملُ له بعض الحكايا عن جراحٍ قد أصابت أمّةً كانت
تُسمّى العربا ؟ قل : متى يا ياسمين الوجد يصحو ممسكاً – في فوحِهِ – العزّ الذي قد هربا ؟/ في فلسطين السّبايا: القدس والزّيتون واللّيمون والعزم الذي ما نضبا / وهناك الغُصّة الكبرى عن المكرِ الذي يمحو الوصايا، ثمّ يُملي وسوساتٍ لشروقٍ غَرَبا / في فلسطين زكامٌ في أنوفٍ أنفت رائحة الذّلّ ، فضعْ يا ياسمين الوعدِ واتلُ الكتبا / في فلسطين حكايات دماءٍ تنبتُ النّخل ، وتروي الكُثُبا / ص ٩٩
نكبة فلسطين عام ١٩٤٨ هي الأشدّ ضراوة والأكثر إثارة لمشاعر الشّعراء الذين كتبوا قصائد تمتاز بصدق العاطفة ،براعة التّصوير وسموّ الرؤى .. يتأسف الشّاعر لغياب ضَوع أمجاد العرب التّليدة ، وذاك العزّ الذي أصبح ذكرى ، أصبحت فلسطين سبيّة ، لكنّ أهلها يأنفون الذّل ، سينبت من دماء شهدائها النّصر ، سيزهر الياسمين ، ويتعالى النّخيل ، وتخضرّ الكثبان . . يرى الشاعر بروحه القوميّة تحرير
فلسطين جزءًا مهماً لعودة الكرامة إلى العرب .. كثير من الشّعراء الأحرار كتبوا عن هذا الموضوع قال محمود درويش : وطني ، يا أيّها النّسر الذي ، يغمدُ منقار اللّهب ، في عيوني / أين تاريخ العرب ؟ … وقال : ” المحبّة والسّلام ، مقدسّان ، وقادمان إلى المدينة ” ..
يبقى الأمل حيّاً في ضمائرنا ، ونابضاً في عروقنا ما دمنا على قيد الجّهاد ..
يقول الشّاعر في قصيدة ” قال مسجون ” قال مسجونٌ لسجّان / طينيَ المسجونُ والرّوحُ فضاءٌ / يعجزُ القيدُ حديداً يتهاوى بأسُهُ / والحرُّ يبقى بوح عزٍّ / رغم قضبانٍ وطغيان / ص ١١٤
فضاء الروح لا تحدّه أسوار ، جدران أو قضبان .. هذه حكاية كلّ حرٍّ ، قاوم الاستبداد والظّلم ، وطلب حياة حرّة كريمة ، يسودها العدل والحقّ ، لا يكسر السجن ، الإصرار والصّبر ، صمود الإنسان المؤمن بحقّه وحرّيته ،
قبالة الباطل والظّلم ، اختبار لمبادئ الإنسان وتمسّكه بها .
ورد في الكتاب سبعة عشر نصاً ، يحملون عنوان “حوار “. يعرف الشّاعر أهميّته ، فهو الحديث بين طرفين ، أو أكثر ، هو السّبيل الأقوم لتبادل الأفكار ، في سبيل خلق مناخ صالح للتّعاون والتآزر ، وضبط الاختلاف ، وتفعيل قيم التآلف والاتفاق ، أداة التّفاهم مع الآخرين، وإظهار القواسم المشتركة ، أو المتباينة بين المتحاورين ، اكتساب العلم وتلقّي المعرفة ، وقد ورد في الكتاب الكريم والسّنة ، وهو السبيل الأمثل ، للوصول إلى الحقّ في الأمور التي تُمثّل منعطفاً من منعطفات الأمم ..
يقول الشّاعر :
حوار بين الياسمينة والغيم:
_لعلك لم تدرك ما بي؛ فحين يميت الحب اللّون ، يولد الطّيف ! فالموت حباً بشارة حياة ،
وارتقاء نحو الأرقى.
_الآن الآن أدركت السّرّ الذي جعل الشّمس تُضيء لي المدى ، حتى أوقظ ضوعك، والآن عرفتُ علامَ لا يحجب ضوعك فصل أو مزاج طقس !
_ضوعي أبجدية الضّوء والماء، يكتب بها الواجدون ما يجدون!
ــ طوبى لضوعك تسبيحة وفاء، تغفر جحود الآخرين !
وهتف هاتفٌ: “أجمل من الوفاء الوفاء ” ص ١٣٣
د. محمّد توفيق أبو علي الأستاذ المربي الخلوق ، كتاباته هادفة ، لتقويم النّفوس ونشر القيم الإنسانية الشّريفة ، يُعطي الحكمة بأسلوب غير مباشر ، كي تصل كضوع الورد إلى القارئ ، فهو يرى أنّه لا يوجد أجمل من الوفاء إلّا الردّ بالمِثل ، كما تفعل الياسمينة التي تأخذ حياتها من النّور والماء ، وترسل طيبها رسالة
شكر ووفاء كيفما كان مزاج الطّقس ، وفي كل الفصول ..
ورد ذكر الوفاء أيضاً ص ١٧٠ في نص جعل فيه ” الشّغف رسالة وفاء بين اللّيل والنّهار” . يتبادلان الأدوار باتّفاق تام ليكون اللّيل للرّاحة ، والنّهار للسّعي والعمل .
في نص آخر بعنوان” قالت للمرآة “ص ١٩١
تلوم المرأة المرآة لأنّها أفشت سرّها ، أجابتها المرآة لم أستطع أن أحفظ السّرّ ، لأنّ المُرسَل إليه معلوم بعلامة الشّوق والحنين . هتفت ياسمينة الرّجاء : ما أجمل وَجد المرايا ، حين يُذكي ناره الوفاء ! .. تعكس المرآة المشاعر والوجد الكامن في القلب ،وليست حماماً زاجلاً . .
في نص “حوار بين شاعر ولغوي ” ص ١٣٤ يقول في معنى التّرادف : الياسمينة واللُّطف والحكمة ، هي من المترادفات ، ويتمنى أن يعبق أريج الياسمين في معاجمنا ، لتكون كلّ
الكتابات جميلة وهادفة ، لأنّ لغتنا غنيّة .
في نص “حوار حميم في طقس بارد” ص ٢١٨ يقول : ” فلتتحرّر معاجمنا من كوابيس القمع ، ولتُفتح في كلماتنا ، كوًى للأحلام القادمة ” ! دعوة للتّجديد والتّعبير عن أحلام وتطلعات وأمنيات الأجيال الطّالعة دون العيش في جلباب الماضي تأتي هذه الدّعوة من أديب كتب مؤلفات عن العصر الجّاهلي يحافظ على الأصالة ويواكب العصر الحديث.
ورد في “حوار بين الياسمينة والشاعر “ص١٥٧ تسأل الياسمينة : من أجمل النّساء ؟ يجيبها الشّاعر : تلك التي لا تُستنسخ ، وتزرع وجهها _ الذي تغسله صباح مساء بماء الحبّ _ في وجوه كلّ النّساء ..
سرّ الجّمال ، الحبّ النّابع من القلب فيُنير الوجه وتكون متفرّدة بجمالها ، بعد أن انتشرت عمليات التّجميل فأصبحت النّساء متشابهات ، وصار الشّكل هاجس قسم كبير منهن .. إنّها
ظاهرة معاصرة ..
وفي ص ١٦٣ “حوار بين حرف وشاعر ” يتحدّث عن رسالة الحرف ، وأثره في المتلقّي ، فإن وصلَ إلى المُرسَل إليه المقصود ، اخضوضر ، وإذا وصل ولم يستحسنه ، الشحوب مآله ، والدّوار بوصلته .. فغرق الحرف في التهجّد كي يبقى أخضرَ .. تظهر قيمة الكتابة في وصولها إلى القارئ المتفاعل ، الكتابة بدون متلقٍ ، كالكنز المخفي ..
في نص “قال الراوي ” ص ١٩٩ يحكي الشّاعر أنّ العنادل وقبائل الورد والزّهر ، ذهبوا إلى حكيم حين هجرهم شاعر ، كان يوقد شاعريته من وحيّهم ، ولكن ! ما زالت قصائده غزيرة رغم صدّه وهجرانه لهم . اقتفوا أثره فعرفوا السّر ..
_ إنّها امرأة منذورة للحبّ ، تعرف كيف تصوغ الشّمس عقداً من الياسمين ، وكيف تزرع في الحرف شدواً من دون حنجرة ، وكيف تجعل
الطّين غيمة لُطف آسرة ! نصحهم الحكيم بأن يبايعوا هذه المرأة ، بايعوها ! قال الرّاوي : توّهج الشّدو ، وأنِق الضّوع ، وتوردت وجنتا القصيدة .
تتصف هذه المرأة باللّطف وجمال الرّوح ، يقول جون كينس :” إنّ الجمال لمتعة أبديّة ” يدرك العاشق الآخر بكليّته ويراه كاملاً ، لذلك يُسبغ عليه صفات قد لا يراها فيه أحدٌ غيره . حبيبة الشّاعر منذورة للحبّ ، بكل قيَمه السّامية ، تعرف كيف تحوّل الشّمس الحارقة إلى برد وسلام وعقد من الياسمين ، توحي بالشّعر ، وتجعل الطّين غيمة لطيفة .. هي مصدر الوحي لكتابة القصائد . وإذا سألنا من هي ؟ يأتي الجّواب بشكل صريح في قصيدة” لولاك ” ص٨٣ يا جذوة في جماد الرّوح تستعر / روحي لمزن الجّمار الخضر تفتقر / غيثي يباب الهوى واسّاقطي ولهاً / فالوجد عند شغاف القلب ينتظر / لولاك كيف يصوغ الوجد
قافية / وكيف يشرق في ليلائه السّمر / لولاك لا حرفَ يهفو للهوى شغفاً / لولاك كيف يكون الحبّ يا سمرُ /
سمر زوجة وحبيبة الشاعر جمعهما الورد والودّ والوجد ..هي منبع الوحي ، تحيي روحه ، تجعل حياته ربيعاً دائماً .
في نص ” ياسمينة الرّجاء ومسّ الخيلاء “ص ٢١١ يتحدث عن ياسمينة الرّجاء حين مسّها الخيلاء ، قالت للشّاعر : أستطيع أن أحبس ينبوعك ، أو أذكيه ، فهزّ الشاعر رأسه ، وطوى أوراقه ، فجنّ جنون الياسمينة وقصدت حكيماً تسأله عن الأمر ، فأشار عليها ، أن تعتذر له . وقبل أن تصل إليه ، قال لها :
بالحبّ ، لا بالخيلاء تنتصر الحياة .
يدعو الشّاعر إلى الحبّ ، ونبذ التّكبّر ، والإعجاب بالنّفس والغرور ، لأنّ الحبّ يرتقي من الانجذاب الماديّ ، حتى الانجذاب
الروحيّ ، فالاتحاد مع الحق في نهاية المطاف ، هكذا يرى أفلاطون ، وتلك أعلى درجة يُحلم بالوصول إليها . .
رسالة د. محمّد توفيق أبو علي المحبّة ، والتّواضع ظاهرة عامة في كل نصوصه ، وهي طريقته في الحياة والتّعامل مع الآخرين ، يشهد بذلك كلّ من عرفه أو تتلمذّ على يديه ..
في نص “مقام الحبّ ” ص ٢١٥ . يرى ، سمٌّ هو الغدرُ ، والحبُّ ترياق . وفي أعماق روحه ، وجد : الحبُّ باصرة الرّوح ، تُغمض جفنيها عن كلِّ حقد ، وترنو إلى خالقها بدعاء ، يشفي الغادر من سمّه .. ما أجمل الحبّ سبيلاً للانتقام من الغادرين ..
الغدر سببٌ لعامةِ الفساد . قال رسول الله (ص ) ” أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً : إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعدَ أخلف ، وأذا خاصم فجر .” الغدر نقض العهد ، الذي عاهد عليه ، هو ظُلمٌ ، وفيه ضرر كبير ، لذلك
ينبذه الشّاعر وشبّهه بالسمّ الزّعاف ، ومن كان خلوقاً لا يرد العمل السيّء بمثله ، وإنّما بالحبّ الذي يراه دواء للفرد والمجتمع .
يقول في نص “حين يُعرِض الشّعراء” ص ٢٢١ يقول : حين يُعرض الشّعراء عن رحيق الضّوع ، تزدهر سوق بعض “المبدعين ” فيعرضون على واجهة بلاغتهم قصائدهم الاصطناعية ، بأثمان تشجيعيّة تجلب الزبائن ، بأغلفة مزركشة تغويهم !
يميّز الكاتب الأديب ، بين الشّاعر الأصيل ، والذين يبغون التّجارة بكتاباتهم ، وقد أطلق عليهم لقب” المُبدعين ” وهم لا يمتلكون منه سوى الإسم فيعمدون إلى زركشة الغلاف ليبيعوا إصداراتهم للزّبائن ، وفي نصّه نقد مباشر لدواوين فقدت قيمة المضمون ، تحوّل بعض الشّعر إلى تجارة ، وحبر على ورق ..
يقول في ومض ص ٢٢٥ “التعصّب ماء مالح ، لا تُروى به العقائد “.
التعصّب جمود في العقل ، يرفض التعدّدية الفكريّة ، هو جاهليّة مقيتة نبذته الأديان، لا يرى المتعصّب الواقع على حقيقته ، وتكون أحكامه مخالفة للحكمة والصّواب ، يوسّع هوّة الخلاف ، والوصول إلى الحلول المناسبة ، يقطع النسيج الاجتماعي ، وهو أبعد ما يكون عن الإيمان ، ضار كالماء المالح ، يؤذي صاحبه والدّين الذي ينتمي إليه ..في هذه الومضة ، يُنَبّه لخطورة هذا الأمر ، لأنه يدعو للتآلف على نقاط التلاقي ، لا الخلاف ، وهذا شأن كل المصلحين الاجتماعيّين.
شغل د. محمّد توفيق أبو علي مناصب عديدة منها : عميد كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة، وأمين عام إتّحاد الكتّاب اللبنانيّين . متنوّع الثقافة يحمل ذخيرة تراثيّة أدبيّة قلّ نظيرها ، غزير الإنتاج الأدبي الأكاديمي ، في الشعر له ثلاثة دواوين راوحت مضامينها بين الحب ، المرأة ،الوطن ، الحكايات والخواطر …يوقظ
أمانينا العذبة بدقّة اختياره للمفردات ، كتابته هادفة بعيدة المرمى ، استعمل الياسمين رمزاً للحكمة ، والنرجس للتكبّر ، نقرأ في نصوصه الأمل ، السلام ، التصالح مع النفس ومع الآخرين ، لديه طاقة خلّاقة ، وروح فيّاضة ، تنشر المحبّة ،والتوجيه وراحة الضّمير .. يقول شمس التّبريزي : “جالس جميل الرّوح ، تصبك عدوى جماله ” لم يتخلّ عن الرومانسيّة وأحاسيس الشّاعر ، وحِكمة الياسمين الذي فاح عطره في الكتاب فاستحق إهداؤه : “لامرأة تصوغ الشّمس عقداً من الياسمين “.
( بقلم الكاتبة والناقدة فاتن مرتضى)