كتب فيصل الهلالي:
هجران الكتابة. أشبه بهجران جسد إمراة فاتن .. تركه دون رعاية من دون دلال من دون لمسة حانية .. اللمس يٌسقي الأجساد تماما كالماء في الأشجار .. لأعوام والعودة إليه متغضن بتجاعيد وندوب وبثور وزوائد ترهلات كبرت مع الكسل والإهمال وانعدام الشغف في مقابله والذكريات المرة والركون إلي البلادة والنسيان..!
تحتاج بعدها الكثير من العناء وخوارق الحب لإشعال جمره المنطفئ إذا لم يكن قد فات الأوان.. تماما..!
الكتابة أيضاً رحلة مستمرة تشبه هذا الاستكشاف النهم المتواصل لبيولوجيا ذاك الجسد وهندساته المحيرة والمعدة سلفا لهذا الذي نسميه بالإغواء أو الحب.. إذا توقفت عنها لعام لن تعود إليها كما كانت جارفة لأعماقك وذهنك وحواسك تتقد في كل خلية منك وفي كل خفقة.. بل تتحول رماد وكوم افتراضات متفحمة…
فاقة الكتابة تستعيد معها فاقة الحياة بكل تلويناتها وتفاصيلها الصغيرة المهملة خارج الاهتمام فجأة تلتم من حولك وتلم جميع من طحنتهم دورة النسيان في جريانها .. يخرجون إليك من كل المجاهيل , مجاهيل الموت ومجاهيل الرحيل ومجاهيل المصائر السيئة.. !!
بين متناول يدي كتاب صديقي الأستاذ / المهندس أمين غانم.. وهذه مقدمة مقتضبة إيذانا بالعودة للتدوين واستباق الحديث عن العمل (( رواية فاتن)) باكورة أعماله الأدبية والعمل الأول في المنطقة المستحق الاعتراف به كعمل أدبي متكامل ضمن جميع شروط الإبداع . أنا العاطل تماما عن القراءة لأعمال أدبية منذ ما يقارب ٥ أعوام إلا لماما أمر علي العناوين أو بعض المقالات بكسل غريب وبمزاج مرضي متفاقم ..
لكننا هنا بصدد حدث جداً مهم قراءة عمل أدبي أولا. لا خلاف على تميزه وتميز لغته التي نعرفها جيداً من كاتب تعتبره المنطقة في الطليعة طليعة المثقفين ومن أوائل الكتاب بالمعني الدقيق للكتابة الاحترافية المصقولة بسنوات الإطلاع والتأملات والنضج المعرفي , ومن كان لهم سبق النشر والتدوين سواء في مجلات دورية أو صحف محلية نتذكر هذا جميعا بامتنان قلبي عميق نحن الجيل اللاحق لثمة مرشدين ملهمين في الدرب .. ثانيا لما يشكله هذا العمل من حافز عظيم .. سيزيح الستار عن مشاريع أدبية بعضها خجولة لا زالت تتحسس طريق النور . وبعضها وأدت بأثر الردة الثقافية والرجعية في كل شيء وغياب المرشد أو المعلم.. هذا الذي بزغ أخيرا كفجر ثقافي مع رواية فاتن..
فاتن التي دخلت ضمن محفزات الإبداع كإيقونة. الجميع يبحث عنها وعن من تكون.. ثم لا يلبث منخرطاً في الخلق الأدبي مجارة للكاتب ورغبة بامتلاك أخرى كهذه التي جسدت نموذج فريد رائع للمرأة المُبهرة وقد ألغت فوراق البلدان ومدت أواصر عشقها المحموم فوق الاعتبارات , ويأس الطرق المسدودة . هذا ما يفعله الحب إنه يلغي المسافات والحواجز ويوحد غريبين تآلفا في أقدس مناطق روحيهما وأكثرها حميمية ..
خلق البطل الشبيه ضمن سلسلة أحداث وتصدعات برع كاتبنا في تكثيفها بحكايا حب وبخط سير ثابت متين غير مشوش كنا سنلتمس له العذر إن وجد كونه العمل الأول .. يتنقل بين بغداد وحجة والقرية النائية المعزولة .تعز وطهران وقد اعتمد ٢٠١١ بداية للسرد ومفتاح هذا التصدع في المنطقة ككل وأثره بكل التداعيات السيئة.. والأزمات الخانقة..!
لا أكتب هذا بنية النقد ولا أجيد النقد . في الحقيقة أكزه النقد ومزاولته تذكرني بمشرحي الجثث .. وليكن هذا حديث من القلب .. حديث ودي صافي ينهمر مع مجري السرد الجميل الشفاف في الرواية وهذا ما يحتاجه الكاتب المميز قبل استناده على الموضوع أو الهدف بدرجة أولى وليس التحاذق ولا الإغراق في جو الصوالين الثقافية بالمصطلحات المعقدة والأفتباسات ولا الحشو المعرفي الفارغ في بعضه بغرض التباهي . الكتابة ناي يعزف باستهلال عذب يلامس الروح شرطها الصدق وحس الكاتب الرفيع كعازف فنان أولا .. مرآة مغسولة تتراقص فيها أحداث حياتنا.. بمرح حتى تلك المأساوية منها. المرح هنا سرعة وصولها وسرعة التلقي . والذي يسميه كازنتزاكي خفقة الإغواء والمتابعة .. وهذا الذي حدث مع قراءة فاتن منذ الصفحات الأولى أحسست بالانغماس وشهية غمر السرد وبالزهو من قراءتي لعمل يرقي لمستوى رفيع جدا ينافس الأسماء المطروحة في الساحة الثقافية اليمنية والعربية .. الزهو المشبوب في بعضه بالحسد.. الحسد النبيل من أين أمتلك صديقي هذا الحس الكتابي الرصين المتأني جدا .. منذ بداية العمل وحتى النهاية.. كأني أشير هنا إلي حرج شخصي من محاولة إخراج كتاب لي لا أدري كيف تحفزت قبل سنتين نزولا عن إلحاح صديق .. وعندما جمعته وجدته مشتت كأنه عصف ذهني لا يمكن لملمته. تراجعت بنية انتظار مناسبة أخرى.. ستكون فاتن الآن .. ليس لي كما أشرت بالبداية ولكن لجيل حالم لديه الكثير من ما يود قوله.. سنقول شكرا كاتبنا على هذا الإنجاز الرفيع الرائع والملهم .. نيابة عن كل طموحاتنا الثقافية..
اكتب هذا ولا يزال في الرواية بقية.. لم أكملها ولكني انتهيت من إعجابي القلبي العميق بالعمل.. أعيش التداعيات النفسية للبطل (( شرط مهم لجودة أي عمل أدبي هذه التداعيات وسريانها السريع من شخوص الرواية إلى القراء )) رغم محدودية المكان الذي يتنقل فيه . وامتلئ بعبارات أدبية وفلسفية ملهمة يصيغها كاتبنا ببراعة كإقتباسات رواد الأدب .. ويخضر للتو دوستويفسكي الذي أنزل الفلسفة من عرش التنظير المتعالي العاجي . وأدخلها في محاورات الناس العاديين وحرارة أحاديثهم اليومية أثناء ما كان يكتب الروايات والقصص ..!
النهاية باتت واضحة وغير مقررة ولا تشبه نهايات أفلام سينمائية بدأت من الحديقة أو مقهى مجاور لسكن جامعي .. كقصة صريحة واضحة المعالم . الرواية لهاث في فضاء ليزري مشبوب بحرائق الحرمان حتي النهاية صراع عاشقين مرير .. كل ما ينقصهما لقاء وتذوب حبال الشك المسمومة تتلاشى الريبة والضغائن التي منشأها تعقيد الجغرافيا وتباعدها. .. !
مزيداً من العطاء يا صديقي ..