جسر السحاب وواحة الفينيق
(قراءة في قصيدة على جبين السحاب للشاعرة ميراي شحادة الحداد)
على جبين السّحاب
…
بيني وبينك بحار وهضاب
بيني وبينك اللّاشيء وكلّ الأشياء!
وصفحة عارية، وصفحة من برقع ونقاب!
كيف ألقاك وكيف أهواك؟
والمجرّات والكواكب تدور في رأسي
في جنون واضطراب!
ونيسان يسخَرُ منّي، يبلّل وسادتي
بنديّات العبر والبكاء!
……..
ميراي شحادة الحداد
على جبين السحاب، قصيدة للشاعرة ميراي شحادة الحداد، من كتاب بوهيمية.
إنها رحلة متشردة بين الأرض والسماء، بوهيمية متصوفة حتى تتحول خرقتها إلى عبور لعالم الأرض، وبهرجات الوجود.
كيف تمتطي الشاعرة جواد الأحلام؟ كيف يصبح جبين السحاب مرتعا لسفر أبعد من جدران الروح؟
جبين السحاب رمز ارتقاء ونقاء. ولكنه ارتقاء سرابي كما الحلم. لا جذور له، ولا ثبات؛ لأن لا تنبت جذور في السماء، على حد قول الأديب يوسف حبشي الأشقر.
الجبين رمز شموخ والسحاب يباب. فهل تصبح البوهيمية أسيرة عزة نفس غرارة؟ وأين موطن السحاب؟
موطن السحاب الفكر، بل شرود الخيال. والشاعرة الحداد تسعى إلى خلق عالم ال فوق حيث كوجيتو الحلم: أنا أحلم إذا أنا موجود. وهذا مسار البوهيميين، في عالم الحرية اللامحدود.
في القصيدة مكانان، بل واقعان: السحاب والأرض.
في أعلى السحاب تقيم شاعرة الوجد والحرية. بينها وبينه امتدادان: أفقي يتمثل في البحار، وعمودي متجسد في الهضاب.
إلى من يعود ضمير المخاطب؟
مرجعية الضمير أنت غير واضحة. أيكون الحبيب، أم العقل، أو القارئ؟ وقد يكون والد الشاعرة الذي تجاوز عالم الأرض، إلى عالم السماء. ولماذا هذا البعد، وذاك الانفصال؟
عنصران من عناصر الأرض يفصلان بينها وبينه: الماء والتراب. جسمها الأرضي يفصلها عنه.
في غيابه، لم يعد للأرض قيمة، أو اعتبار. لقد أصبحت عالم اللا شيء، وكل الأشياء، في آن. الأرض لا شيء لأنه بعيد، وكل شيء لأنها منه التذكار.
على جبين السحاب يقيم الحبيب البعيد. ومسكنه أرض الأموات.
بوهيمية هي، تسير في عالم من فراغ. والفراغ نفسي كما يقول الشاعر الفرنسي لامرتين:Un seul être vous manque ettout est dépeuplé إنسان واحد ينقصك ولا أحد في الوجود.
هي ثنائية الوجود والعدم، حيث النفس معلقة بين عالمين متناقضين متصارعين: الهُنا والهُناك، الأرض والسحاب.
الأرض صفحة عارية، وعالم الفوق مجهول، خلف برقع ونقاب. فكيف يتم اللقاء بينها وبينه؟ وكيف تستطيع أن تهواه؟
يدور في رأس الشاعرة صخب واضطراب، مجرات من الضياع تتصارع في فكرها الفتي، وفي عقلها الذي يأبى الخضوع لقوانين الحياة.
كيف لها أن ترضخ للجنون؟
نيسان عالم الورود ولكنه غدا بالنسبة إليها خريف اكتئاب ودموع. كيف تحوّل ربيعها الوردي إلى مناحة من جليد؟
يا لسخرية الظنون، في الليل الحنون! يا للهو الأقدار في خريف السنين! كيف يتساوى العدم والكينونة، في دفاتر الأنين؟
كيف ألقاك؟ تقول الشاعرة، وكيف أهواك؟ فاللقاء والحب وجهان لعملة واحدة. إنها عملة الوطنية التي تبحث عن ذاتها، في ذاتها، حيث لا قلق ولا ندم.
وفي سكرة البوح تتساوى الأنوار والظلال.
في صحوة الوجد سهول وتلال.
وفي لجة الكتمان أحلام بيلسانة خريفية يختلط أريجها بالنسيان .
على جبين السحاب تموج صورة الأب الغائب. تراه الشاعرة ولا تراه. ذكراه خالدة في القلب والحلم وأصداء السراب.
بيني وبينك اللاشيء، وكل الأشياء.
كيف تورق المسافات في ضمير الأشواق؟
كيف تحترق المناجاة خلف شعاع ديجور الرحيل؟
أرض الشاعرة يباب، وبحرها احتراق.
تذكارها جنون واضطراب.
وعلى الضفة الأخرى حنين إلى صمت مضرج بالسؤال: متى يعود؟
هل يمطر في بوحها الجوع وأحاديث يجافيها الكتاب.
بوهيمية هي، أحلامها القدر.
سندبادية البوح والنفير.
وفي بيادر أمواجها فضاءات تكشف عن جوع المحار.
بين كينونة الشاعرة والعدم شعلة سندسية الحضور.
بين حضورها والغياب إشراقات عبير الناي الفضّي المضيء.
عودة إلى عنوان الكتاب: بوهيمية.
رهان الشاعرة على الحرية غير محدود.
ولا حرية خارج المطر، والعطر، والسحاب.
بوهيمية العذاب هي، كأنها إكليل نور شاحب هزيل.
بوهيمية البحث عن حقيقة كالسماء بلا جذور.
نكرة فقدت مسوّغ وجودها، في نداء السماء.
سحاب الشاعرة مشبع بالدموع. دموعها اختراق الأنا، في عالم مجنون.
بين نيسان وتشرين عناق.
في البدء كان الماء يروي الأرض بلا مطر. واليوم تتجدد النعمة العرفانية.
نداء الأمس يعيد الشاعرة، عبر الحلم، إلى فردوس لحظة الخلق الأولى. تشتاق هيولاه، ومقامات الشوق السبع.
على جبين السحاب فارس امتطى الرحيل على جواد الشوق.
ميراي شحادة الحداد، أيتها الساكنة ضفة الموج المجنون، كيف استحال مطرك إلى واحة جف فيها الماء والدماء؟
نيسانك الفضي عرش قصائدك الحنين.
قرارك الطيران أيقظ فيك نداء الحرية.ولا حرية أبعد من الذات الكبرى، في تضاريس السكون.
بوهيمية الوعد أضاءت كوكب الأنين.
في القصيدة ثنائية طاغية. إنها ثنائية الغياب/ الحضور.
فالأب الغائب وقد تجاوز سحاب الفكر حاضر في كينونة وجد صوفي القسمات والسمات.
والوطن الغائب قسرا، حاضر في وجدان الشاعرة إيمانا منها بخلوده والأرز والإنسان.
كل ما في الوجود، بعد الرحيل، سراب ووهم. ولكن الرجاء لا يموت، لأنه باق في الذكريات، والحب، والحنين، مهما طال البعاد. والشعر وحده جسر العبور، إلى واحة الفينيق .