التّرميز في القصّة القصيرة جدا/ الوجيزة
قصص حسن البطران في مجموعته “مارية وربع من الدّائرة” أنموذجًا
بقلم : الكاتبة والناقدة أ.د. درّيّة كمال فرحات
( أستاذة في الجامعة اللبنانيّة وعضو ملتقى الأدب الوجيز )
اتّسم تحديد مصطلح الرّمزيّة Symbolisme بكثير من الاضطراب، فتعدّدت استخدامات الكلمة بمعانٍ متنوّعة، ويمكن أن يُقال عنها إنّها “محاولة لاختراق ما وراء الواقع وصولًا إلى عالم من الأفكار سواء كانت أفكارًا تعتمل داخل الشّاعر – بما فيها عواطفه – أو أفكارًا بالمعنى الأفلاطوني بما تشتمل عليه من عالم مثالي يتوق إليه الإنسان”.
واستخدام الرّموز ناتج عن إدراك البديل، والمجتمع هو الذي يحدّد معنى الرّمز، أو هو الذي يُضفي على الأشياء الماديّة معنىً معيّنًا فتُصبح رموزًا. ومع أنّه لابدّ من أن يكون للرّمز وجود ماديّ ملموس حتّى يصبح جزءًا من التّجربة الإنسانيّة، فإنّ اكتشاف معنى الرّمز لا يتمّ عن طريق فحص ذلك الكيان أو الشّكل الماديّ وحده، وإنّما يمكن إدراك معناه فقط، بالإلتجاء إلى وسائل وطرق أخرى غير مجرد الاعتماد على الحواس.
واللجوء إلى الرّمز يعود إلى أسباب متنوّعة، فقد يشعر الأديب أنّه عاجز عن التّصريح، أو الخوف من التّصريح، وهذا الخوف لا بدّ أن يكون ناتجًا عن رفض القيم أو المفاهيم السائدة في مجتمع ما، أو لمواجهة سلطة ما، وقد برز في الآداب القديمة والحديثة أمثلة على هذه الرّمزيّة في التّعبير. فالرّمزية قد فتحت أمام الأدب “أبوابًا جديدة للتّعبير بعد أن كادت تغلق عليها المسالك، وذلك بإيجاد آفاق واسعة للتّعبير وخلق صور لم تكن تخطر على بال كاتب أو فنان…”.
لذلك فإنّ الأدب أصبح قادرًا على التّعبير عن الأفكار التي تراود الأدباء مستخدمين الرّمزية التي امتدت “إلى المشاكل الإنسانيّة والأخلاقيّة العامة تعالجها بواسطة الخيال وتصوراته. وهذه التّصورات تكون غالبًا بعيدة من مشاكلة واقع الحياة فهي لا ترمي إلى تصوير هذا الواقع وتحليله ونقده، بل ترمي إلى تجسيم أفكار مجرّدة وتحريكها في أحداث، تتداخل وتتشابك لإيضاح الحقائق الفلسفيّة، نفسيّة كانت أو أخلاقيّة”.
ولم تكن القصّة القصيرة جدا(القصّة الوجيزة) بعيدة من توظيف الرّمز، لأنّ الرّمز أكثر امتلاءً وأبلغ تأثيرًا من الحقيقة الواقعة، وتوظيف الرّمز في القصّة القصيرة جدًّا سمة يتّصف بها الكتاب على مستويات متفاوتة من حيث الرّمز البسيط إلى الرّمز العميق إلى الرّمز الأعمق.. وهكذا . ومع أن الرّمز أو التّرميز في الأدب عموما سمة أسلوبيّة وأحد عناصر النّص الأدبيّ الجوهريةّ منذ القدم إلا أننا نراه قد تنوّع وتعمّق وسيطر على لغة النّصّ الأدبيّ الحديث وتراكيبه وصورهوبنياته المختلفة، والرّمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة تعميق للمعنى، ومصدر للإدهاش والتّأثير، وإذا وظّف الرّمز بشكل جماليّ منسجم، واتساق فكريّ دقيق مقنع، فإنّه يسهم في الارتقاء بعمق دلالاتها وشدّة تأثيرها في المتلقي. واللجوء إلى التّرميز جاء لأسباب متعدّدة منها الضغوطات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة أو دلالة أبعاد نفسيّة خاصة في واقع تجربة الكتّاب الشّعوريّة. وتختلف الرموز في القصّة القصيرة جدا منها الطّبيعيّة، والتّاريخيّة والأسطوريّة والفانتازيّة، والمكانيّة والسّيمائيّة. والغالب أن يكون النّص رمزيًّا غير مباشر لإتاحة الحريّة عند المتلقي في التّصور والتّأويل.
فالتّرميز يمتلك قدرة كبيرة على الإيحاء الذي يشير إلى معنى آخر وموضوع آخر وعوالم لا حدود لها من المعاني، وتتحوّل الكلمة إلى رمز حسن تعني أكثر من معناها الواضح المباشر إذ إنّ لها جانبًا باطنيًّا أوسع، فلا يحدّد بدقة ولا يفسّر تفسيرًا تمامّا بحيث يأمل المرء تحديده أو شرحه كما هو.
وتشترك القصّة القصيرة جدًّا/الوجيزة مع باقي الأجناس في خاصيّة التّرميز، فتتحوّل لغة القصّة إلى دوالٍ رمزيّة، وإحالات دالّة، ما يفتح النّصّ على مؤشرات مفتوحة، تسمح للمتلقي في المشاركة في النّص، وفهمه بحسب العلامات السيميائيّة المتوافرة فيه. وعليه فإنّ كلّ الدّلالات التي يُظهرها النّصّ تدلّ على المعاني الكامنة وراء الرّمز، ما يولّد دلالات ثانية راجحة على الدّلالة الأولى المباشرة.
ومن سمات الرّمز أنّ الحدث في القصّة الوجيزة بات لقطة إيحائيّة رامزة له، وهي تعتمد على الإيحاء والتّكثيف، فتتّصف بأنّها كتابة رامزة تمنح كاتبها في التّعبير عمّا يريد من دون أي قلق.
ويضفي الرّمز على القصّة الوجيزة ميزة من خلال الإيحاء والتّلميح الذي يجعل المتلقّي مشاركًا في الكتابة، قادرًا على إعادة صياغة الواقع.
وتتعدّد الرّموز التي ترد في القصة الوجيزة، فمنها ما له علاقة بالرّموز التّاريخيّة والأسطوريّة، ورموز الميثولوجيا، وقد نجد بعض الرّموز اللغويّة والسيميائيّة، وتخفي هذه الرّموز الأبعاد الدّلاليّة التي ينشدها الكاتب، ويبغي منها أن تكون شيفرة التّواصل مع المتلقي الذي يكتشف مضامين القصة الوجيزة.
وهنا قد يقع الكاتب في فخ الإغراق في الرّمز ويتحوّل النّصّ إلى طلاسم غير مفهومة، وهو ما لا يجب اللجوء إليه، فمن المحبّذ أن يميل النّصّ إلى الغموض الفنيّ، لكن ليس إلى درجة عجز الفهم، ربما يحدث ذلك مع المتلقي العادي، لكنّ على الكاتب أن يميّز بين الرّمز والمبهم. وربمّا المغالاة في التّرميز تؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه فينفر المتلقي من القصة الوجيزة، فمن الضرّروي أن يبقى هناك مفتاح يستطيع الآخر استخدامه ليفتح مغاليق النّصّ.
فالتّرميز مهم في القصة الوجيزة، تكسب النّصّ إبداعًا كبيرًا، ومن وراء ذلك يشعر المتلقي المتمرّس باللذة وهو يكتشف المعنى المراد من النّصّ، وفي ذلك يقول أدونيس الرَّمز هو ما ينتج لنا أن نتأمل شيئًا آخر وراء النص، فالرَّمز هو قبل كلّ شيء معنى خفي وإيحاء؛ إنّه اللُّغة التي تبدأ حين تنتهي لغة النّصّ، وما يتولّد في وعي المتلقي بعد الانتهاء يكون البرق الذي يبيح للوعي أن يستشفّ عالمًا لا حدود له، لذلك هو إضاءة للوجود المعتم واندفاع صوت الجوهر.
إنّ القصّة الوجيزة المستندة إلى التّرميز ما هي إلّا الشيفرة المعبّرة بين المرسل/ الكاتب والمرسِل إليه/المتلقي. وتكمن اللّذة بين مهارة الكاتب في إرسال نصّ مرمّز وسعي المتلقي في فه النّصّ وتفكيك دلالاته. ومن المهم السّعي إلى الكشف عن مدى تحقّق الرّمز في القصة القصيرة جدا/ الوجيزة وكيف يستطيع كتّاب القصة توظيف الرّموز في نصوصهم، وكيف يمكن للقارئ من ممارسة التّأويل.
التّرميز في المجموعة القصصيّة مارية وربع من الدّائرة”
حسن البطران قاصّ سعوديّ أصدر بضع مجموعات تنتمي إلى القصة القصيرة جدا/ القصة الوجيزة، وآخرها مجموعته الموسومة بـ “ماريّة وربع من الدّائرة”، وهذه المجموعة تلتزم كتابة القصة القصيرة جدًّا وما فيها من تكثيف واقتضاب وإيجاز، وتجدر الإشارة إلى أنّه قسّم مجموعته القصصيّة إلى عشر حزم إبداعيّة وفي كلّ حزمة أربع قصص قصيرة جدًّا، وختمها بأربع قصص طول حزامها لا يكفي.
واللّافت أنّ الغالب على هذه الحزم هو الرّمز المليء بالإيحاءات والإيماءات، وانطلاقًا من عتبات النّصّ نجد العنوان “مارية وربع من الدّائرة”، وإذا تتبعنا ما يقوله جيرار جينت بأنّ العنوان مجموعة من العلامات اللّسانيّة يمكن أن توضع على رأس النّص لتحدّده، وتدلّ على محتواه، ويساعد ذلك على إغراء الجمهور المقصود بقراءته، فإنّنا نحتاج إلى دراسة علاماته السّيمائيّة من عدّة نواحٍ.
وبنية العنوان الأوّلى للعنوان هي البنية الصّرفيّة والنّحويّة، فجاء في صيغة مركبّ اسميّ، وتتشكّل البنيّة التّركيبيّة من خبر لمبتدأ محذوف يقدّر باسم الإشارة هذا، وحرف عطف واسم معطوف وجار ومجرور.
أمّا البنية الثانيّة فهي البنية الدلاليّة، نبحث عن “مارية” الي أشار إليها الكاتب في عنوانه، فتحيلنا رمزيّة هذا الاسم إلى معناه اللّغوي المتعدّد الدّلالات، فمن دلالاته أنّه يُشير إلى المرأة البيضاء البرَّاقة والمكتنزة الناعمة. كما أنّ ماريّة اسم علم مؤنث عبريّ بتلفظ آخر لمريم ولا سيّما في مصر، وقد عُرف باسم مارية القبطية زوجة النبي محمد. فهل كان اختيار هذا الاسم مصادفة أم أراد حسن البطران الإفادة من التّرميز اللّغوي والتّاريخيّ. ورمزية الاسم أيضًا فيه دلالة على الجنوسة ودلالة على المرأة شريك الرّجل في الحياة.
ومتابعة دلالات العنوان تقودنا إلى الجزء الثّاني منه “وربع من الدّائرة”، فنرى إشارة إلى الدّائرة وتركيزًا على ربع الدّائرة، وهو ذلك الجزء من الدّائرة الذي يمثل ربعها، أو القطاع الدّائري الذي يمثّل ربع الدّائرة. إنّه ترميز رياضيّ يحفّز تفكير المتلقي إلى البحث عن هذا الرّبع الذي يرتبط بالأجزاء الأربعة من الدّائرة التي تنغلق على نفسها وتصبح دائرة متكاملة، تبدأ من حيث تنتهي، تحتاج إلى قطرها الذي يقسمها إلى قسمين، ولعل في ذلك إشارة إلى العلاقات الإنسانيّة، وإلى ما له علاقة بتعدد الزّيجات، وما ذلك إلّا إشارات سيميائيّة نكتشفها من خلال النّصوص.
ويكتمل التّرميز للعنوان من خلال الصّورة المختارة، فنجد امرأة تعيش في دوامة الدّائرة ولعلّها تُشكّل ربعا من أرباع هذه الدّائرة، فيكون البحث عن ماهية الأرباع الثّلاث الأخرى.
وفي تتبّتع رمزيّة العتبات النّصيّة الأخرى نصل إلى ما أورده “حسن البطران” في الاستهلال الذي بدأ به، والإهداء الذي سطّره، ففي الاستهلال يذكر آية من سورة يوسف، وفي ذلك ترميز دينيّ يستوحي منه دلالات قصة النبي يوسف. وفي الاستهلال الثّاني يعبّر بقوله:
“ لا تعرقلني
الطّرق غير المعبدة ومتعددة العقبات بل تزيدني إصرارًا وحماسًا نحو الأمام والصّعود إلى المرتفعات مع بقائي متغلغلًا في هويتي .!”
يمكن من خلال ما سبق أن نأخذ إشارات تقدّم لنا دلالة على ما سنجده في المجموعة القصصيّة، هي صراع بين ما نجده في حياتنا السّائدة وبين الصّعود والتّجديد والتّغيير، من دون التّخلي عن الهّوية.
أمّا الإهداء الذي ذكره الكاتب فهو: “النّبض لا يدوم بعد عروج الرّوح إلى السّماء، لكنّه في حالاتٍ ربيعيّة يستمرّ لأشخاصٍ هم جزءٌ منه..! وتبقى (ماريّة وربعٌ من الدائرة) نبضًا باقيًّا لمن يثيره ويمدّه طاقة كأنت يا إثارة”. في الإهداء إشارة إلى نبض التّغيير والتّجديد، الذي سيستمرّ مع نبض ماريّة بكلّ ما تمدّه من إثارة ودهشة.
وإذا كانت القصة القصيرة جدًّا تعبّر عن الهموم الإنسانيّة وعن العلاقات المتعدّدة، فإنّ حزم “حسن البطران” في هذه المجموعة، برزت بشكل واضح مستندة إلى التّكثيف الدّلالي، فتحوّلت الحزم إلى عناوين عامة ينطلق منها الكاتب إلى القصص الأربعة التي احتوتها كلّ حزمة، فالحزمة الأولى فيها إشارة إلى العلاقات المتقطعة، والحزمة الثّانيّة إلى العلاقات المحرّممة، والثالثة فيها رمزيّة التّجديد والتّغيير، وفي الرّابعة إشارة إلى التّضاد بين الإتّساع والضّيق. أمّا الحزمة الخامسة فقد اختفت صورة المرأة ليركّز فيها على الرّجل ومواقفه، وفي الحزمة الخامسة دلالات رمزيّة إلى العلاقات الأسريّة. ليشير في الحزمة السّابعة إلى التّناقضات، وفي الحزمة الثّامنة الخيانة، وفي التّاسعة دلالات على العلاقات غير الطّبيعيّة، أمّا الحزمة العاشرة فهي تعبّر عن الصّراع والأحلام. ولعلّ القاسم الغالب على النّصوص هو الإضاءة على العلاقة بين الرّجل والمرأة مع وجود ظلال لنساء آخريات، ما يعود بنا إلى أرباع الدّائرة التي رافقت مارية في العنوان.
إنّ الأديب “حسن البطران” لجأ إلى الرّمز في قصصه واعتمد التّلميح لا التّصريح، ويترك مساحة للمتلقي، ليطلق الخيال لتفكيره ولمتابعة المؤشرات الدّالة على المعنى، وسنحاول أن نختار نماذج من المجموعه واكتشاف الأبعاد الرّمزية فيها، ونختار من الحزمة السّادسة قصّته “قرار كلّه ظلمة”:
يطيرُ بعيدًا عن غابات النّخيل، يريد أن يغرّد..
هناك في الفضاء..
سُئل من جماعته لماذا تهرب بعيدًا عنا..؟!
لم يُجبهم وقرر أن يطير ويطير إلى مسافات أكبر بعيدًا..!!
حينما سمعت أنثاه، حلّقت هي الأخرى بعيدًا في الاتّجاه المعاكس، بقي عشّهما وفراخهما بين البعدين.. غرابٌ طائش استحوذ على العشّ وفراخه..!
إنّ هذا النّصّ يرسم لوحة سرديّة في العلاقة بين الرّجل والمرأة، أو بين زوجين اثنين قرّر الطّرف الأوّل وهو الرّجل أن يحلّق بعيدًا ليبحث ربّما عن لذّته أو سعادته، فما كان من الأنثى إلّا أن تبحث أيضًا عن رغباتها، وهكذا كان الدّمار للبيت وللتآلف الأسريّ، فسهّل ذلك سيطرة الغراب/ الغريب على العش/ الدّار. وقد تقودنا الإشارات السّيميائيّة في القصة إلى دلالات ترتبط بالأوطان، فمتى تخلّى القيمون عن الوطن سهل اغتصابه والسّيطرة عليه. وفي قصّته “نصّ غير منشور” من الحزمة السّابعة يقول:
يريدها عارية الجسد، يشتدّ الخلاف بينهما،
زوجته تستحمّ خلف ستارة لا يبللها ماء..!
يكتفي هو بقراءة نصّ شعريّ لشاعر إحسائيّ كبير، النصّ غير منشور..!!
إنّها علاقة التّجاذب بين ما يريده الرّجل وبين ما تعوّدت عليه المرأة في طبيعة العلاقة بينهما، ما يؤدّي إلى تأجيج الخلاف، وربما في هذه القصة يقدّم البطران إشارات إلى طبيعة العادات والتّقاليد التي تحكم العلاقة بين المرأة والرّجل، لهذا تظلّ غير قابلة للنشر.
ومن الحزمة السّابعة أيضًا يذكر في قصّته “نتف من جلد”، طبيعة الخلاف المستمر بين الرّجل والمرأة، فيتّهمها بالتّسويف والمماطلة، وينتهي الحوار الطّويل بينهما بطلبها عدم اللوم:
وصفها بالمسوّفة..!
وبعد حوار طويل بينهما قالت: لا تلمني..!
وقد نذهب في هذا الحوار الطّويل بينهما إلى الحواجز والقيود التي جعلته يتّهمها بالتّسويف وإلى طلبها عدم اللوم. إنّ كل كلمة في النص تحمل مفارقتها معها، فهى تعنى الشّيء وضده في الوقت نفسه، ويستمرّ القاص في حزمته السّابعة وفي قصة “خمار وثقوب” إلى الإشارة إلى التّقاليد والقيود:
أرادت أن تخمد نارها،
لبست خمارًا ورثته عن جدتها السادسة..
(أحمرّ) وجه أختها.. كونها تذكرت ما سمعته عن جدّتها الثّالثة.
يدور صراع بين الرّغبة والموروث، بين نار تشتعل، فيكون العلاج بالخمار، وما الخمار هنا إلّا دلالة على تقاليد موروثة من الأجداد، ومن يخالف هذه التّقاليد لن يكون الموقف منه إلّا بالخجل والحياء/ أحمّر.
وفي قصة “وحل” من الحزمة الثّامنة، ينطلق القاص في نصه إلى فتحه على أفاق تأويليّة لها قصديّة ومسكوت عنها، لكن لا بدّ من تتبّع بعض الإشارت التي نبدأ بها من العنوان لإدراك ماهية الوحل، واللافت أنّ الكاتب أتى بكلمة وحل نكرة، ما يجعلها مفتوحة على أكثر من معنى:
حاولتُ أن أتسلّق الجدار فتمكنّت، إلّا أنّني سقطت في الوحل في الجهة الأخرى.
لم أجد ماء لكي أغسل ملابسي المتّسخة، تركتها تجفّ تحت شجرة الليمون، نسيت جسدي بين دجاجتين تنقنقان؟؟!!
هو صراع بين الجسد والرّغبة، بين طهارة النّفس ووحل الرّغبات، فيقع الجسد بين ربعين من أرباع الدّائرة/ دجاجتين تنقنقان.
ويعتمد الكاتب على المفارقة بين اللونين الأبيض والأسود ليقدّم صورة الرّجل المزيّف، فيُظهر وجهًا أبيض، وفي باطنه قلب أسود، وفي ذلك إشارة إلى الخيانة، فيقول في قصّة “قماش أبيض بطانته سوداء:
عوّدها أن يكنس المنزل كلّ يوم.
بعد عودتها تلك الليلة من سهرة نسائيّة،
استنشقت أريجًا منعشًا يغطّي زوايا المنزل.
ابتسمت كثيرا..
دلفت إلى غرفتها فوجدت على سريرها بايا خرقٍ داخليّة..!!
إضافة إلى تصوير العلاقة المتبادلة بين المرأة والرّجل وظلال أرباع الدّائرة، استطاع القاص “حسن البطران” في مجموعته هذه أن يطرح الكثير من القضايا الإنسانيّة، فنجد في قصّة “بعيدًا باتّجاه الصلاة”، يبرز صورة مغايرة لما نراها عن الأمّ:
يركض بعيدًا في الاتّجاه المعاكس للباب الذي أُغلق في وجهه..
اشتاق إليها بعد غياب..
حينما فرضت عليه الصّلاة أراد أن تكون ركعاه الأولى تحت قدميها..
رفضُها له وهو في المهد ليس له أي مبرر..!
وإذا كانت رمزيّة هذه القصة تميل إلى المباشرة، فإنّها تقدّم دلالة مهمة عن صورة أُمًّ تخلّت عن عاطفتها من دون أي مسوّغ، لكنّ في القصة إشارات تقودنا إلى فهم عمن يتحدّث: “تحت قدميها- المهد”. ومن النّصوص في هذه المجموعة قصة “علاقة من خيط رفيع”:
قُرع جرس انتهاء الاختبار، لم ينتهِ رائد من الإجابة على كامل الأسئلة..
طمأنه أستاذه بأنّه تجاوز المادة بامتياز..!!
علاقة شائكة بين (رائد وأستاذه)، تجعل من الأستاذ يمنح طالبه علامة الامتياز، فهل يمكن لاسم “رائد” أن يقدّم لنا إشارات إلى موقعية هذا الطّالب الذي سمحت له بالرّيادة، ما يفرض على أستاذه تجاوز ضعفه، أو ربما فيها إشارة إلى النّفوس المرتشيّة في هذا السّلك، أو لعلّ هناك علاقة من خيط رفيع بينهما، إنّ النّص يعتمد الإبهام، وفكّ مضمونه يكون من خلال البنية اللّغويّة وما فيه من ترميز، ما يتيح الوصول إلى تأويلات متعدّدة، وهذا ما يبرز مهارة الكاتب الذي قدّم لمخيّلة المتلقي فرصة لتقديم رؤى متعدّدة، وقد تكون متجانسة مع ما يريد الكاتب أو مختلفة، وفي الحالين ذلك إثراء وإغناء للفكر للاثنين معًا.
في الختام يمكن القول إنّ القاصّ “حسن البطران” قد أجاد في استخدام الرّموز في مجموعته، وقد تمحورت حول مفاهيم محدّدة، ويمكن القول إنّه بالغ أحيانًا في التّرميز لكنه لم يصل إلى مرحلة الطّلاسم والتّلغيز المبهم. وعليه فإنّ العمل على الرّمز يقدّم للكتابة قيمة إبداعيّة، ويسهم في تبادل الأدوار بين المرسِل والمرسَل إليه، وتوثيق العلاقة بينهما.