بلد القواقع الفاسدة
ليس البحر الأجمل في العالم، بشطآنه وخلجانه، وبأوديته وجباله، وكذلك بسهوله ومنحدراته وأنهاره، إلا بحر لبنان.
وليس البحر الأخجل في العالم كله، إلا بحر لبنان. ليس البحر الأوسخ في العالم كله، إلا بحر لبنان.
بسبب فساد الإدارة، وبسبب فساد الحكومة، وبسبب فساد أجهزة الرقابة.
بسبب الفساد البلدي والفساد الشعبي، والفساد المعشش في النفوس، صار الشاطئ الأجمل، الشاطئ الأوسخ.
الشاطئ اللبناني، لم تفسده النزاعات الطائفية. ولم تفسده النزاعات البلدية ولا النزاعات على السلطة، ولا على الإنتماءات للمحاور الداخلية، أو الخارجية. بل أفسدته النفوس المشوهة. والنفوس المريضة، والنفوس الميتة.
أنا لا أريد التحدث عن التعديات التي نهبت الشواطئ العامة في مختلف المناطق، من العريضة الغربية شمالا، حتى رأس الناقورة جنوبا، وإنما أتحدث عن النفايات والمهملات والمكبات، التي طرحت و “إنفلشت”، في كل فسحة من الشاطئ، لم تصل إليها الأيادي المعتدية على المشاع العام، التابع للدولة و للبلديات، إذا ما حضرت إلى الشاطئ.
لم أكن في يوم من الأيام، بعيدا عن صحبة هذا الشاطئ اللبناني السوري الأسيوي، الذي وصف أمين الريحاني سحره اوائل القرن الماضي، في كتابه الأثير: “قلب لبنان”.
كنت ولا أزال شغوفا به، منذ نعومة أظفاري. يوم خرجنا إليه: أبي، أمي، وأنا، من شاطئ العبدة، إلى شاطئ الناقورة، العام1954، نقيس طوله ونطال أفقه، بأبصارنا. وكنت يوم ذاك في السادسة.
كان البحر لنا، أخ سفر. كنا ننتقل من بوسطة، إلى بوسطة، وكان البحر ينتقل معنا، على الشبابيك، ولا يكترث لتغيرها عليه، ولا لتغير الحافلات التي أقلتنا.
كان بعض الركاب يستأذنون السائق، بالنزول إلى البحر، لأخذ زجاجة ماء، يقطرون منها في عيونهم، في أشهر الرماد.
منذ ذلك الوقت المبكر في حياتي، نما في داخلي معنى الصحبة للرفاق الأوفياء. تعلمت من البحر معنى الصحبة الصادقة. معنى الصحبة الدائمة. وكان الساحل طريقنا إلى القرية وطريقنا إلى المدينة، وطريقنا إلى المدرس، وطريقنا إلى الجامعة. وكان البحر يصاحبني، وكان شاطئه يصاحبني، ولا يغيب عني في سفري، لا في الصباحات ولا في الأماسي. وكانت الشمس، مثلما تغيب عنا في البحر، تشرق علينا من البحر.
اليوم، ضاع مني البحر. ضاعت علي صحبته. غيبت القواقع الفاسدة، التي غطت شرشف البحر، عن عيوني، زرقته بلون الثلج في الصباح، وزرقته بلون الذهب في المساء.
غزت القواقع الفاسدة رمل الشاطئ السحري، وصخره وخليجه وأرخبيله تشفطه، فطفت على مائه الأزلي، جميع أنواع الأوساخ التي رمتها القواقع الفاسدة، بنفوسها المريضة.
وفي غياب الحمائية لشرف البحر، كانت القواقع الفاسدة، تعتدي على حقوقه: حقه الطبيعي بنظافة مائه، وحقه الطبيعي بالمد والجزر. وحقه الطبيعي بالإستحمام كل يوم بأشعة الشمس. حقه الطبيعي، بدورة الفصول ودورة المواسم والمراكب والحقول. ودورة الهواء والرياح، ودورة الأمطار والأنهار.
قواقع فاسدة، أفسدت علاقة بحر الشعب بالشعب. ضربت الصحبة بيني وبينه في الصميم. جعلتني أخسر أعز صداقة، عرفتها، سحابة عمري كله، وأعز صديق. صرت بعده، أردد مع المتنبي:
“فلما صار ود الناس خبا جزيت على إبتسام بإبتسام”.
قواقع فاسدة، في الإدارة وفي الوزارة. وفي قصور الشعب، في الجمهورية، وفي قصور الشعب البلدية.
قواقع فاسدة نتنة، تفوح رائحتها من بعيد، أفسدت صحبتي مع البحر، تماما كما أفسدت صحبة النهر للبحر. كأنه حكم علينا أن نعيش بعد اليوم في بلد القواقع الفاسدة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
( المقالة لزاوية ” شهرياد الكلام ” بالتنسيق مع منتدى شهرياد الثقافي في لبنان )