..نظرا لأهمية المقالة النقدية التي نشرها الكاتب والناقد الحسام محي الدين في مجلة ” القدس العربي ” حول ديوان الشاعرة يسرى بيطار , يُعيد موقع ” ميزان الزمان ” النشر للإفادة في زمن غابت عنه الدراسات النقدية الجادة .
هنا مقالة الاستاذ الحسام محي الدين
في جريدة القدس العربي اللندنية
حول المجموعة الشعرية “منازل العشق” للدكتورة يسرى بيطار :
○○○○○

… الحداثة والحب والمرأة كمفاهيم طليعية في ديوان ” منازل العشق ” للشاعرة اللبنانية يسرى البيطار .
تؤكد د. يسرى البيطار مُجدداً وبعد ديوانيها ” عطرٌ من الشّوق ” ( 2014 ) و ” أكادُ من المحبة أسقط ” ( 2016) أنَّ الأبقى في خاطرة القارىء العربي والأهمّ تأثيراً ووجدانية فيه هو اتصال الفكرة بالمشاعر في تكاملٍ سَلس.
في ديوانها الجديد ” منازلُ العشق ” تكتب البيطار حداثة الشِّعر كمفهوم وليس كلغة ، ، فهو لا يحتملُ الجمل الانشائية التي تَتّزِرُ بالخَبر، بل التي تهزُّنا من الصميم كي نلتفت من نافذة العبارة المُشرقة إلى أحوال الحب التي نسخَتْ فلسفياً مساحات الشعور الانساني بالقصائد المنازل . فكلُّ قصيدةٍ منزلٌ لعاشقٍ مُريد ، طَوَّفَ باللُّغة شوقاً ، وتأوَّد آهاً بروحه على عتبة كل واحد منها ، مُجدِّداً جماليات اللقطة الموائمة بين الصورة البلاغية المُركّزة والفكرة المُلونة بوهجها المُتكسّر على أمواه الاحتمالات التي تترك للقارىء أن يأخذ ما يريد من فانتازيا تلك الجماليات ليجعلها على مشجب وجدانه، بل تقتحمُ المجهول البلاغي بوسائل ممكنة للفوز برؤى جديدة في المجال الدلالي تجعل المرأة بؤرةً استشرافية لما يجب أن تكون عليه ، بعيداً من المأزق المتكرر اليوم والبادي في تجاهل حقيقة كفاءة القصيدة من عدمها بين طرفي الارتكاز الحيوي في بقائها : الشاعر والقارىء.
فهي تكتبُ التجربة المُطلقة التي تتوافر عليها فكراً وروحاً حتى ولادة القصيدة بشكلها النهائي ، بعيداً من مفهوم التجربة أو التجريب ، بل تجذيراً لحداثة المعنى تحت سلطة الوحدة العضوية للقصيدة التي هي في أساس مفاهيم الحداثة الشعرية ، وهو ما يشي بوعي ” البيطار” لِلُعبة الايقاع التي لا تنتظر الوزن للانطلاق في تقرير عملية تشكُلِ القصيدة نحواً وصرْفاً فحسب ، ولا تتحرَّجُ من الموزون الخليليّ لاعتباره عقبةً صاخبة أمام التصرف بأريحية بمفاتيح اللّغة الشِّعرية نيلاً للإبداع . فقد انغمرَ ديوانُها بحاجة الوزنِ للقول وليس العكس ، أي ما أصبحت تحتاجه التقفية للتركيب اللغوي : فكلما نزفت مفرداتها الثّرَة في العبارة الواحدة تولدت التفاعيل عفواً وتلقاءً في سبيل التقاطها وصقلها على نسقٍ إبداعي متنوع مخافة أن تفقدَ منهُ شيئاً ، ولِئلا يضيعَ منهُ جَمال . وهذا عنصر حداثيٌّ يؤطّر تعالُقَ العمارة الفنية بين الوزن والقول ، ويخلعُ على الشِّعر العربي مساحةَ استثمارٍ جديدة لأسئلة الوجود بين الحبِّ والمرأة ، ليس دفاعاً عن جمع المُؤنّث السّالم وحده ، وليس شِعراً ينسخ شعراً بل مستداماً تسابق به نفسها في عملية التخطي والخلق المعبر عن مواكبة حضورها الخاص في هذا العالم لحظة بلحظة ، والسير في طريق الذاكرة القريبة المتوائمة مع أحوالها الراهنة احساساً وانفعالاً لا يتنكّران بالطبع لصيغة التوتُّر المتصلة بالشاعر عندما يؤسّس للعملية الابداعية . تلك الهوية الحداثوية التي تنْشَقُّ فيها ” يسرى البيطار” على ذاتها كعاشقةٍ حُرَّة بثيمتين اثنتين . الحبُّ والمرأة ، الهاجسان الوجوديان في الشِّعر النَّسوي المُعاصر ولا مبالغة في ذلك. هيكلان مُمتدان في حصار الأنا القلِق على ضفّة أولى ، ومأزق الوصال مع الآخر المُنكمش على ذاته على الضّفة المُقابلة ، وبينهما جسر من سوء الفهم الإلزامي العبور بين الحلال والحرام والممكن والمحال والأمل والسآمة والضلالة واليقين ، ما يدفعها بالضرورة إذ ذاك أنْ تجعل أمر الشِّعر بيدها ، وإلى إخصاء بعض العقل الذُّكوريّ المُغامِر بأحاسيسها بعد أن نفضت يديها من جدوى الوفاء لأمنية امتلاكه :
لم يبقَ لي شيءٌ لأخسرَهُ
لقد حلّ الشتاءُ على القِطافِ …
حسبي أغادر فجأةً وأفرُّ من ألمِ الجسدْ
ويطوفُ في ذكرايَ ألفُ مغامرٍ أو ألفُ مقهورٍ
يموتُ من الحسدْ …
قمْ جفّفِ الأوراق تحت وسائدٍ شهدتْ بأنْ ضاقَ المُسمّى بالحرام على الحلالِ
ذبحوا البراءة بالحلال وعِفّتي !
والكونُ يغرقُ في الضلالِ
لا شيء أعظمُ من حرابِ العشق في جسدِ المُحالِ !
إنه العشق الطليعيّ الذي يتفجَّرُ عن ماءِ الأنوثة ، واستكمالٌ لما أعلنته في ترويسة الديوان في الثورة والثورة المضادة معاً: ” ما أظلم المعادلة عندما أحبك وأنت تشتهيني “! وبالمعنى الذي يفترشُ امرأةً عاشقة حييّة ، نزيفاً حائراً بين الكمال والتبعثر:
ترفّقْ بالذي قد ماتَ عشقاً لينسكبَ النّبيذُ على الليالي
أراكَ موزّعاً والظُّلم أنّـــــــي أنا مولودةٌ يومَ الكمــــــــــــالِ
ولا تنتهي حربُ الدّماء العاشقة التي ترى في قُبَلِ الشّفاه العائذاتِ بكوثرِ اللَّمى توقاً لنيل الحبيب ، رغم شكلانية المصير المُلتبس بحاضرةِ الفناء:
فليتنـــي شجرٌ في ظـلّ قريتِكُــم وليتني إنْ سلوتُ الحبّ لمْ أكـــنِ
وكيف أسلو وإني حين تحضُنني لا أعرفُ الفَرقَ بين الثَّغر والكَفنِ !
هنا بين القبلةِ والموت لا توظيفَ لِلُغةِ المُصادفة . القُبلة الذاهبة إلى أقصى النهايات والنازفة من نُضجِ امرأةٍ مخضلَّة بأنصافِ الرُّؤى ، لاحزنَ فيها ولا فرح ، ولا ما بين ذلك قواما ! كما لا مساحةَ لتبعِيةِ لذّةٍ عابرة مُستباحة هنا ، أو انعزالٍ على الذات كمن أُخِذتْ بذنبٍ هناك . وإذن فليكنْ ركوبُ الموتِ المتاهةِ بكلِّ إرادتها كفعلٍ أخير ذاتيٍّ جدّاً.
# ( الناقد والباحث الأكاديمي الحسام محي الدين )
