..يتابع موقع “ميزان الزمان” نشر أجزاء الدراسة القيمة للدكتورة مفيدة الجلاصي وذلك يومي الأربعاء والجمعة من كل اسبوع .
هنا الجزء الثاني :
” خصائص المنهج النقدي عند ” طه حسين” من خلال ” حديث الاربعاء “
نواصل الوقوف على البنية العامة للكتابة النقدية عند طه حسين متخذين ” حديث الاربعاء” باجزائه الثلاثة انموذجا يحمل في طياته مشروعا نقديا مؤسسا على بعد النظر والتحليل والتبرير عبر ما تضمنه من مقالات نقدية ولم يفتنا ان نسعى لبيان الظروف التي حفت بهذا المشروع النقدي لطه حسين في ضوء وعيه بالبنية التاريخية التي تحرك فيها هذا المشروع المرتبط بمجموعة من الضوابط التي تحكم كتابته النقدية بل وحتى قراءته للنص العربي وصيغة هذه القراءة ابتداء من تحديد المكونات الاساسية للكتابة النقدية وهي مكونات وجهت مفاهيمه النظرية عبر مختلف مراحل مسيرته الادبية والفكرية
ولا شك في أن النظرية النقدية لطه حسين كانت محكومة في راينا بمجموعة من العناصر الاساسية التي اثرت تاثيرا بالغا في نسجها وبلورتها فمثلت بذلك اساسا الصراع السياسي والايديولوجي الذي واكبه طه حسين منذ بداية مشروعه الثقافي ثم الخطاب الليبرالي والقراءة الثنائية للنص العربي
وفي هذا الاطار من النهضة السياسية والاجتماعية والثقافية انتشرت الصحافة وهي من اهم المجالات التي تحرك فيها طه حسين منذ بداية حياته الادبية والفكرية فقد كانت وسيلة للمواجهة واذكاء الصراعات السياسية المختلفة وقد وجد فيها ما يشجع رغباته وطموحاته الفكرية عبر ما كان يلقاه من متعة في تلك الخطابات المتصارعة في الحقل الثقافي والسياسي ولا سيما فكر ” حزب الامة ” وهو الحزب الحامل للاتجاه الليبرالي الذي يمثله الصفوة من المثقفين
وقد اتسمت المرحلة الاولى بسمة البحث عن خطاب نقدي علمي مستمد من العلوم التجريبية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر وامتد اثرها الى العلوم الانسانية والدراسات الادبية وهو منهج برز في كتابه” ذكرى أبي العلاء” سنة 1915′ وهو رسالة تقدم بها لنيل درجة الدكتورا من الجامعة المصرية وفيه نجده كما قال ” يعبر عن نوع من الوعي بالاشكال المنهجي الذي يعانيه في قرارة نفسه بين الثقافة الازهرية التقليدية وذهنيتها ومناهجها وبين الثقافة الحديثة وذهنيتها ومناهجها”
من هذا التمازج بين المحصول التقليدي والحديث اضافة الى صوت المدرسة الليبرالية سعى طه حسين الى خلق منهج خاص يعبر عن وعيه بالمرحلة الجديدة في محاولة حثيثة للتخلص من تبعات الكتابات السائدة
لقد جمع طه حسين الطموح النظري والممارسة النقدية بمنهج علمي وهو اتجاه ظهر في الدراسات الادبية التي ظهرت في اوروبا في القرن 19 ولا سيما عند الناقد الفرنسي” تين taine” وهذا ما جعله يقتنع بالدراسة التاريخية لا سيما في قراءة أدب المعري فراى ان هذا الشاعر العربي ما هو الا نتيجة لمجموعة من العوامل التي صنعته فقال” ليس الغرض من هذا الكتاب ان نصف حياة أبي العلاء المعري وحده انما نريد ان ندرس حياة النفس الاسلامية في عصره فلم يكن لحكيم المعرة ان ينفرد باظهار اثاره المادية والمعنوية وانما الرجل وما له من اثار واطوار نتيجة لازمة وثمرة ناضجة لطائفة من العلل اشتركت في تاليف مزاجه وتصوير نفسه من غير ان يكون له عليها سيطرة أو سلطان”(تجديد ذكرى ابي العلاء القاهرة 1958 ص 37*)
وبهذا تتاكد لدينا اهمية التاريخ في الدراسات الادبية في قول طه حسين ايضا” واذا صح هذا كله فابو العلاء ثمرة من ثمرات عصره وقد عمل في انضاجها الزمان والمكان والحال السياسية والاجتماعية والحال الاقتصادية ولسنا نحتاج إلى أن نذكر الدين فانه أظهر أثرا من ان نشير اليه ولو ان الدليل المنطقي لم ينته الى هذه النتيجة لكانت حال أبي العلاء نفسه منتهية بنا اليها فان الرجل لم يترك طائفة من الطوائف في عصره الا اعطاها واخذ منها”(ذكرى أبي العلاء ص 21)
وبهذا تتضح حدود الكتابة النقدية عند طه حسين التي تجلت في هذه المرحلة الاولى مع” ذكرى أبي العلاء” ثم تبلورت في كتاباته اللاحقة وحددت ضوابط قراءة النص العربي عنده
كما ان ملامح مشروعه النقدي تتضح وهو مشروع تعزز بعناصر جديدة تؤسس لكتاباته النقدية تاسيسا واعيا متبصرا في ظل متغيرات ثقافية واجتماعية شكلتها ثقافته العربية والاوروبية وهذا ما جعله يعيد قراءة النص العربي من اجل بناء تاريخ ادبي وفقا للمنهج الذي سلكته اوروبا في قراءة تاريخها الادبي وبنائه وقد ظهرت ثوابت الكتابة النقدية التاسيسية عند طه حسين في اهم الكتابات النقدية التي الفها في هذه المرحلة حول الادب الاوروبي والادب العربي دون ان نغفل قراءته للفكر اليوناني والروماني من خلال دراسته للمنطق
يتبع….
# (الدكتورة الشاعرة والناقدة مفيدة الجلاصي)