كتبت الباحثة والروائية الدكتورة لطيفة الحاج قديح قراءة في رواية ” المنذور ” لمؤلفها الكاتب والشاعر الشيخ فضل مخدر , وقالت فيها :
لم تردعني «الكورونا» عن قطع شارع الحمرا مشياً على الأقدام من أجل الوصول إلى مكتبة «بيسان» حيث تربعتً رواية «المنذور»، على أحد رفوفها، في أربع وخمسين صفحة بعد المئتين، من القطع المتوسط، «فخير صاحب في زمن الكورونا كتاب».
وقد ساعدني الحجر المنزلي على سرعة تغلغل بصري وفكري وروحي بين صفحات «المنذور». وسرعان ما جذبني بين سطور الرواية ضوء مشعٌ وعطر ذكي فواح، دلّني على شخصية كاتبها «الأديب الشيخ فضل مخدر» مندسّة من خلال الشخصيات الرئيسة ولا سيما شخصية الشيخ والشاعرة كما شخصية الجد.
ولا عجب في ذلك فأديبنا قد جمع المجد من أطرافه، فهو قبل أن يكون صاحب مؤلفات أدبية عديدة، في أدب الرواية والشعر والنثر، هو رجل دين تسنّى له أن يدرس في الحوزة العلمية ليتخرّج منها شيخاً معمماً. وليس لنا التساؤل كيف أو لماذا؟
وكما علينا أن ندخل البيوت من أبوابها، فعلينا أيضاً أن ندلف إلى متن الرواية من عنوانها «المنذور» وهو يشي بالكثير، وله دلالات عميقة. فكلمة المنذور مشتقة من فعل «نَذَرَ» ومعناها أوجب الشيء على نفسه، صدقة كان أو إحساناً أو غير ذلك. كمن ينذر نفسه للعلم، أو كما نذرت امرأة عمران «حنة» ما في بطنها لخدمة الدير…
وبطل الرواية يدعى زبيباً، وقد نشأ يتيم الأبوين، فتربّى علي يدي جده، الذي توفي عنه تاركاً إياه وحيداً إلا من صحبته لشيخ الضيعة ولـ «صالح» الشاب الذي ربّاه وجعله إبناً له. وهو إنسان قروي، لم يذهب إلى مدينة، ولم يتعلّم في كتاب، ولكن الحياة عركته وعركها وعلمته الكثير فتخرّج من جامعتها بدرجة رفيعة. وإلى ذلك، يحسبه من لا يعرفه للوهلة الأولى أنه إنسان ساذج بسيط ولكن لسانه غالباً ما ينطلق كأحد الحكماء، لهذه الصفات أحبّه كل من عرفه.
وما أن توفي الجدّ حتى هجر زبيب بيته وأقام في عرزال، في حاكورة، ما أتاح له مراقبة السماء… وقد رأى رؤيا وهو ابن ثمانين، فقصّها على جمع من الأهالي، يقول: «إنه شاهد بينما كان نائماً في عرزاله إن سقف العرزال يرتفع وبانت له من البعيد نقطة ضوء، حسبها نجمة. وراح سقف العرزال يرتفع، وكلما ارتفع السقف اقتربت النجمة، حتى أصبحت ثلاث نقاط مضيئة، وبدأت تتسع وتكبر إلى أن غطّت العرزال بنور لم يرَ مثله من قبل، ثم عادت النقاط الثلاث فصارت ضوءاً واحداً… وراح الضوء ينحسر… فبانت من خلاله قامات ثلاث ووجوه وأجساد بأثواب بيضاء مكلّلة بذلك الضوء»… لمن هذه القامات الثلاث؟ وماذا يريد هؤلاء؟ إن السرّ يكمن داخل الرواية. وقد أشار أحد أصحاب هذه القامات لزبيب إنه إن أطاعه فسوف يجد قبره وإلى جانبه جرّة من الذهب الخالص. وقد أمره أن يبني له بيتاً لضيافة الناس وأن يحفر لنفسه قبراً إلى جانبه، مضيفاً أن علامة صدقه سوف تكون موته (أي موت زبيب) في أول ليلة بعد إتمام البناء. فهل صدقت الرؤية أم لا؟ هذا ما تكشف عنه الصفحات الأخيرة من «المنذور»..
والمكان المذكور موجود في الحقيقة، وهو عبارة عن مزار ديني يعود إلى السنوات الأربعمائة الماضية، والأهالي يتباركون بوجوده في بلدتهم ويزورونه بشكل دوري (ص 257).
حول هذا الموضوع تدور أحداث الرواية بأسلوب إنسيابي مرن مشوّق جميل، يحاكي رفرفة الفراشات ووشوشة الطيور وهديل الحمام. إنه السهل الممتنع الخال من التعقيد والتكلّف، حيث تدور أحداث ممتعة ومشوّقة وغامضة في آن، يتعرّف البطل من خلالها على عالم الجن، ويقع في غرام «يمامة» إحدى الجنيات الجميلات التي تظهر له وتقع هي الأخرى في غرامه وتأمره أن يكتم سرهما، ولكنه لا يلتزم الوعد. فكيف يكون العقاب يا ترى؟!
ولا يلبث « زبيب» أن يتعرّف وهو في شيخوخته على حميدة ويقع في غرامها كما تقع هي أيضا في غرامه، ويقرران الارتباط، ولكن يمامة تعود لتظهر مجدّداُ في حياته، وتقع أحداث جميلة مشوّقة تدفعه للتراجع عن الزواج… فما هي هذه الأحداث، وماذا يحدث بعدها؟ وهل تنتهي بتحقّق الرؤيا، أم لا؟
وقد يحلو للبعض تصنيف رواية «المنذور» على أنها «رواية حبّ» حيث تتحدث ليس فقط عن الحبّ في مختلف وجوهه، وإنما أيضاً عن الحب الصوفي الكبير. فها هي حميدة حبيبة زبيب الأنسية عاشقة له عشقاً مختلفا، فهي تقول في (ص 146): «أنا شعرت بالغيرة، ليس من يمامة فهي لن تأتي… لكنني أغار منك أنت…». نعم هي تغار وتقول: « أنا أغار من هذه الروح التي تعتريك». أحس في هذه اللحظة كم لمست روحه ذلك اليوم (146).
وفي (ص 151) يتحدث الكاتب عن الحب على لسان زبيب ليقول: «فغرقت بألم الفراق عمري كله، لكنني الآن أرى كم تعلّمت من ألمي معنى الحب، الذي تحوّل إلى روح أغدق بها حبي على كلّ من حولي، حتى أنت..».
وهكذا يظهر للقارئ المتعمّق كم أن المؤلف مهووس بجمال الروح!
وهل هناك أجمل من أن يتحوّل الحبّ إلى روح يغدق بها العاشق حبّه على كل من حوله؟ وهل هناك حبّاًّ أعظم من ذلك؟
إنك فعلا تحتار كيف تصنّف رواية الشيخ فضل مخدر فهي تأخذ من أرواح الأصناف والألوان أجملها وأبهجها، ولهذا فالأصح أن نصنفتها بـ «رواية الحياة»..
مبروك هذا الإنتاج المبارك وهنيئاً للوطن وللمكتبة العربية بك وبقلمك النديّ الأديب الشيخ « فضل مخدر» وإلى مزيد من الانتاجات الأدبية بإذن الله…
( لطيفة الحاج قديح – روائية وباحثة )