كتب الناقد نظام مارديني :
صدر عن دار “زمكان” ديوان الشاعر الكبير مردوك الشامي “أدقُّ باب العاجزين”، ويأتي هذا الديوان كإضافة جديدة في بناء صرحه الأدبي والشعري الذي يناهز أربعين عامًا من الإنصات العميق لنبض القصيدة. وإن كانت القصائد المختارة في هذا الديوان تنتمي إلى فضاءات مختلفة، فإنها من جهة، تحافظ على نفس صوته المتفرد في الساحة الشعرية اللبنانية/ السورية، ومن جهة أخرى، تبصم الهوية الخاصة للديوان الذي صدر مع افتتاح معرض “بيروت العربي الدولي للكتاب” في دورته الـ 66.

و”أدقُّ باب العاجزين” هو ديوان الوجع الإنساني الذي يدق الشاعر الشامي أبوابه بقصائد تحفر عميقًا فينا وتكشف وجعنا المتراكم، وتثير التفكير في علاقة العاجز بالوجع في اللحظة ذاتها وفي الزمن ذاته…
ولكن كيف يمكننا تفسير الازدواجية التي يعيشها العاجز في جسد الوجع الإنساني؟
مردوك الشامي هو ابن اللحظة في كل زمان ومكان.. هو ابن المحبة رغم العجز الذي يعيشه في مواجهة قلقه الإنساني، وكأن العجز… وكأن الوجع هو احتفالٌ بالحب أيضًا.
يحار المرء وفق أي مقاربةٍ يتناول نصوص الشاعر “مردوك الشامي من جيل السبعينيات، ففي مجموعاته التي تجاوزت الـ (9 بين شعر ومقالة ونقد) حقق “الشامي” ثنائية شعرية مدهشة.. هذه الثنائية تتجسد بإصغائه إلى صوت القلب المفعم برومانسيته.. وعذوبة موسيقاه.. وبساطته التعبيرية عن أشواقه.. وانكساراته عبر دروب الحياة.. وفي نصوصه (الشعر والمقالة والنقد) لا نراه يقدم نصوصًا منفعلة، وشعارات صاخبة.. بل يترك سخريته السوداء تصل إلى ذروة إفادتها من التلاعب باللغة.. وإزاحة كل ماهو عقلاني فيها لأنه يقف أمام حالة تقع خارج المعقول والمنطقي.
لا أريد أن ابتعد عن مضمون ما أسعى إليه في مقالتي هذه عن “الشامي” صديق الحياة بكل مراحلها، وسأذهب مباشرة إلى حيث تتدفق جمله الشعرية بسلاسة كما الماء النازل على منحدر معشب يتلامع تحت الشمس، فيتجلى الانفعال المبالغ فيه والافتعال وروح الرومانس المرتبط بعفوية الشعر… هو شعر يحفر منذ بداياته في أرض مخصبة. حتى القضية والوطن والفكرة وشّحت أفق الشعر بشعاع معانيها، وببلاغة أكثر حميمية وسطوعًا وعمقًاً.
الشاعر مردوك الشامي في لوحة
تلاحقني غواية المقارنة والمقاربة في قصائد ومقالات “مردوك الشامي” ولا أدري كيف لي أن احتفي به اليوم وفي كل يوم؟
و”الشامي” شاعر يمتهن اللحن وتذوب قصيدته في نوتة غنائية، حزينة من جهة.. وراقصة داخل رغباته من جهة ثانية، وكأن قصائده حولته الى موسيقي أقرب منه الى الى روح الشعر وفضاءاته الجمالية الحقّة… ولكن ماذا يقدم الشاعر “غير الموسيقى أولًا” في قصيدته؟
شعر “الشامي”… ضروريٌّ لنتذكر الإخلاص الذي يقدم مثالًا متحررًا بشكل جذري من كل لغو وانتساب لا قيمة له. شاعر يحدثنا عما يؤسس وعما يرفض وينبذ.. هو شاعر يُلحن قصائده بأنامل من الوجع العميق في روحه التي تقف أمام التراجيديات التي مرّ بها الشاعر المشدود بأحزانه المزمنة من جهة والفرح من جهة ثانية.
فكلما ألقى “الشامي” بقارئه في أعماق اليأس رمى له بالأمل، وكلما أخذه من يديه إلى غابات الحزن، أسقط بين يديه فاكهة السعادة.
ديوان “أدقُّ باب العاجزين” أشبه بمرآة مائية ترسم صورة العالم بعيدًا عن الأحكام الجاهزة، والإيديولوجيات العقيمة.
كل شيء، لدى “الشامي”، يظهر ويختفي بشكل ثابت ويقيني، فالعالم متأرجح بين الصفاء والضبابية، بين الوضوح والغموض، بين الحضور والغياب، بين الوجود وبين العدم. كل شيء قابل للسؤال، وكل شيء إلى زوال.
يقول أبن رشيق القيرواني: “الموسيقى حلة الشعر.. فإن لم يلبسها طويت” هكذا بدت العلاقة بين الشعر والموسيقى منذ البدء علاقة تكوين وتخلّق ونشوء، وبناء على هذه العلاقة (العقائدية في الشعر) لدى القدماء ظلّ الإيقاع صامدًا في وجه كل التغيرات والمؤثرات التي مرّ بها… لكن الخوض في علاقة الشعر بالموسيقى عند “الشامي” لابد لها أن تجرّنا إلى الحديث عن علاقة الشعر بالغناء (… وكم من قصائد مغناة له).. وقد شاع لدى أجدادنا أن أول الشعر حداء.. وقصة هذا الحداء طريفة جدا في بعض الروايات كان “الحداء” عند العرب قبل “الغناء”! قال الجاحظ: “الشعر شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا”، وهو يقرر بذلك أن الشعر تعبير عن الانفعال وتصوير للعاطفة.
ولكن الذي يعنينا في هذا المقام هو جانب الموسيقى الذي لا يمكن ضبطه إلا بمعرفة علم العروض وعلم القافية، وهذه هي موسيقى الوزن أو الموسيقى الظاهرة، فالأوزان التي تبنى عليها قصائد “الشامي” تخلق فيها إيقاعًا تألفه الفطرة ونغمًا تلذه الأسماع، إن الصلة قوية بين الشعر والموسيقى لأن كليهما يقوم على الأداء الصوتي. ولهذه الموسيقى في شعر “الشامي” أهميّة عظيمة، بل هي من أهمّ الأمور التي ميّزت شعره، ولجأ من أجل تحقيق ذلك إلى عدّة وسائل في نصوصه.
—————–
صدر له:
أسئلة ساذجة/ كرسي اعترافي/ أسئلة الغريب/ نون القسوة/ حبر ابيض/ الشاهد الأعمى/ أدق باب العاجزين / و4 اعمال في المسرح الشعري: أورنينا/ أدون/ إيزيس/ صيدون الملك
مردوك الشامي يوقِّع ديوانه للناقد نظام المارديني