رحيل إلياس لحود
شاعر الركاميات
نبوءته سبقته إلى التحقق. كان بحق، “زرقاء اليمامة”. رأى بأم عينيه، قبل أن يوافيه الأجل، كيف تتهاوى البلاد ركاميات. ما كان يكتب عن حاضر، إلا كما يراه بعد عقود من الزمن. ما كان يخرج إلى الأضواء. كان يفضل العيش في العتمة، حتى تتجلى له الصورة، في الغرفة المظلمة. كان حقا حدقة السينما الجارية: ركاما فوق ركام. وحرائق منتشرة. ودخان يملأ البلاد.
الشاعر الياس لحود بعدسة هاتف المخرج يوسف رقة
إلياس لحود الذي مضى من النور إلى النور، كان لا يبرح الظلمة. وجد فيها المخبآت. وجد تحت العتمة كثافة المعنى. ولهذا بقي يبحث دهره، في عتمة القرى، عن الحقائق القاتلة القادمة.
كل ما جرى، منذ سال حبره على جبين الجنوب، كأنه رآه بعينيه يتراكم، ركاما فوق ركام، كما الآن هو. كما مشهد القرى الدامية. كما مشهد الضاحية في كربلائية دائمة.
ما هذا الشاعر البصير بنا. بالبلاد. وبطقوس كربلاء. عرف أننا نكتب موتنا بأيدينا. منذ نصف قرن من الشعر. فلا شيء كان خافيا عليه. كان يسكت. كان يصمت. كان يعرف سر المقصلة التي نصبت لنا. وكان قلمه يصيح بالموت، كما مئذنة.
الشاعر الياس لحود بريشة الفنان علي شحرور
إلياس لحود، إقتحم ليل الشعر في الجنوب. سرق الشعلة وسار بها، قبل أن تصل أليها أيادي الشعراء الفزعة. المرتجفة. المترددة. لهذا بتنا معه كل هذا الأمس، نقاسي أوجاعنا، ونرقب بإرتجاف ما يحل الآن بنا: ركاما فوق ركام. حيث تعلو الهامات على أقدارها. حيث الموت صار هوية لنا. والفجيعة تستنقع أيامنا.
لون شعره، كلون بشرته، يلمع من بعيد. ويغور فينا ضوءا وكشفا ونبوآت. وكلما توالى علينا بشعره، كلما رأيناه سيفا يلمع في رقابنا. يلوح لنا من بعيد، كما بيرق يخرج من هزيمة. من جريمة. من فجيعة مداهمة.
رجل بأيد كثيرة. بسيوف كثيرة. بشعر كثير. وبقامة تلوح للريح من بعيد حتى توافيها الريح مشتاقة. ينسج منها عباءته، ثم يجلس في ظلها: يكتب الآماد القريبة والبعيدة. ويخيط الذكريات. يجعل منها مزهرية عشق، لعاشق لا يهدأ. لا ينام. في بلاد قلقة.
راهن الشعر و راهبه، إلياس لحود. الذي سوف يبقى، ونرحل عنه. سينبت حتما، تحت ركام الجنوب وتحت ركام الضاحية. وتحت ركام لبنان والبوادي المجاورة. سينبت فينا وردا وعوسجا. بعد أن يهدأ البركان فينا. يأخذ منه جذوة الشعر، وينصبها لنا: حلما قادما، إن أفقنا.
شاعر الركاميات، إلياس لحود، كلما إستيقظته، إستيقظنا. ظل دهره يؤنبنا، ينبهنا، يوبخنا… فماذا بعد ذلك، هو فاعل؟
إلياس لحود أتعبناك حتى القتل من جهلنا. نظل بعدك نمارس قتلنا العادي. نظل بعدك نموت كل يوم، ولا نتعب من حبنا. لا نتعب من عشقنا.!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين