يلتفت لراحته
على مقعد، بين شجرتين دهريتين من الشربين، تطاولان برج الساعة خلفي. وتحت شبابيك مكتبة يافث. مكثت أنظر إلى البحر. وأمامه عتبة خضراء عظيمة. وإلى جانبيه مبنيان جميلان للرياضة والفنون.
كنت بين الحين والآخر، أتلفت حولي إلى الدروب المتشعبة. كانت حفافيها مشغولة بالأزاهير وبالورود. كانت عرائس الطلاب تختفي شيئا فشيئا، عن سمعي وعن عيني. فقد دقت الساعة الثامنة، تؤشر ألى قاعات الدروس.
كان الملعب الأخضر، تحت ناظري. صفحتان هادئتان من زرقة وخضرة: البحر والملعب المعشوشب الأخضر. وكانت السفن تعبر هادئة. وكانت الطائرات، تهدر من بعيد آتية. وكان الملعب يلهث بأقدام الراكضين إلى أزمانهم القادمة. كان الصباح جميلا للغاية. يتنفس الشمس والهواء النقي. وكذلك زقزقات الأطيار والعصافير. وأجنحة الفراشات، ترفرف صوبي من بعيد.
كان أمام عيني شاب في مقتبل العمر، يدور حول الملعب. يختفي ثم لا يلبث أن يظهر. ظل يفعل ذلك مرات ومرات. كأنه يدور معه ، حول البحر والعشب والأشجار، والسياج الأخضر.
وأما الوقت، فكان يمضي به الهوينى. يمر به وكأنه لا يشعر. كنت أحسب بناظري عن بعد، أن الساعة كانت تضيق عن وقته. وشيئا فشيئا، بدت سرعاته تتلكأ عن خطواته. رأيته فجأة يستأني. يتثاءب. يتمهل. يختار مقعده من الدرج. عينه عليه من بعيد. إقترب إليه يلتفت أخيرا لراحته.
ما هذة الساعة فينا. تعين لنا وقت الراحة. تنتظم دقاتها مع دقات القلب. لا نستطيع التقدم عنها. ولا نستطيع التأخر. تمشي بنا الهوينى، ونمشي بها، منذ النزول الأول إلى الأرض، بكل دقة. ثم تحملنا سنة بعد سنة. تعدل لنا الوقت المناسب. بين كد وبين جد. ترانا نكد. نكدح. منذ الولادة. وننتظر بفارغ الصبر ساعة الجد.
رأيته يلتفت لراحته، ذلك الشاب الذي كان يسعى حول الملعب. نبهته ساعته في داخله. أنذرته أولا. ثم رأيته لا يتأخر عنها. فقد حانت ساعة الإلتفات لراحته، مثلي أنا.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين