التعب و التثاؤب
حل التعب علي دفعة واحدة. أنا الذي ولد في السابع من تموز-1948، لم أعد أحتمل الهرولة من هزيمة إلى هزيمة. من نكبة إلى نكبة. من نكسة إلى نكسة. صارت الهزائم والنكسات والنكبات تتعبني، بأثقالها. صرت أجد نفسي وأنا أصلى بها كل يوم، رجلا عجوزا متثائبا طوال الوقت، لأنني لا أزال أفكر بها.
تقتلني الهزيمة عشرات المرات في اليوم الواحد. ثم أنهض من تحتها، متثاقلا منهكا، متثائبا. حتى صار عندي التثاؤب مرضا عضويا. يعاودني، كلما تحدث أحد أمامي، عن الماضي النضالي. وعن الماضي الجهادي. وعن الماضي اليساري البطولي، مثل لاعب في ساحة القرية: يعتد بنفسه، و يقطع الوقت في رفع المحدلة، على الأسطح الواطئة.
إشتد مرض التثاؤب علي، حين صرت أقهر الهزيمةوالنكسة والنكبة، بطلب العلم. صارت المكتبات تتهاوى علي، في الأروقة والأندية والصالات والأكاديميات والمجامع العلمية. كنت أشعر دوما بتقوس الظهر عنها، لأنها ثقيلة علي. كنت أتثاءب وأنا أراجع دواوين الشعراء، وكتب الشروح والتفاسير، ومجلدات الأصول. كان فقه اللغة يجعلني أصفر الوجه. أميل للتثاؤب، منه إلى العلم به. كنت أتضجر من أسماء النحاة والعلماء والشراح والمفسرين. كانت العصا سخينة علي. لا أهضمها وهي تتهاوى على قلبي. تريد أن تقتل قلبي وعقلي لتحولني إلى إنسان آلي.
غرمت منذ صغري، بالدفاتر والأقلام والمحابر والأوراق والكتب. جميع الكتب، حتى الصيني والفهلوي والياباني والسنسكريتي منها. كنت أفتش ليل نهار عن أعشاشها. أتخطفها. أمنحها عبي، وأهرع إلى صندوق مهمل، أخبئها فيه. حتى تعالت الصناديق فوق بعضها. فوجدت ضالتي، لدى أبناء كتبي ( صاحب مكتبة): كانت له مكتبة أعرق وأجد، من جميع مكتبات المدينة بطرابلس. وجدت ذات يوم أبناءه، يطرحونها للبيع بالأرطال. كل رطل أو كل صندوق، بدرهم أو دينار، حسب الوزن، كما الأخشاب للحمام التركي. ساومتهم على ثلاث جنبات. حملتها على ظهري واحدة بعد أخرى، إلى غرفتي. وملأت رفوفها بكتب صناديقي وشبابيكي. وجلست قبالتها طوال ليلتي أتغزل بها. وكنت حين أتعب من النظر فيها، أتثاءب حتى يطويني النوم، مثل شريد الرصيف، بعضي إلى بعضي.
كنت أنقل كتب الهزائم والنكبات والنكسات، من بيت إلى بيت. حتى رآني أحد الأنسباء، أجرها من أذنيها إلى مدخل البناية في سكني الجديد، فقال لي: أمر عجيب. لا زلت تنقل هررك معك، من بيت إلى بيت. أتبيت حقا معها في غرفة واحدة، ولا تضجر من موائها طوال الليل!.
تموء حقا جميع الهزائم منذ ولادتي حتى اليوم. مواء وعواء وصأصأة وأزيز وصهيل وزئير الكتب، يحتل قلبي، ويزرع التعب والهزيمة والتثاؤب في داخلي. ومع ذلك أهرع إليها، كمدمن على الهزيمة وعلى المواء، لا فرق.
اليوم، بلغ السيل الزبى: تطاردني الهزيمة من دار إلى دار. تصيح بي: دع كل ما جمعت من ورق وحبر، مكانه في الأرض. واخرج عاريا كما ولدت. رافعا يديك إلى فوق مع إنحناء الرأس وطأطأة وتقوس وتحدب الظهر. كأكئ كما تريد، ولا تسمع كأكأتك لأحد، حتى لا تجني على نفسك. فأنت من جيل الهزائم. من جيل النكسات والنكبات. وأصلك خوذي. ونخاس عتيق. قطعت العمر: هما على هم. حتى إحدودب منك الظهر. وسار وراءك الصبية يرمونك بالحصوات وبالتنك، ويقهقهن لمرآك، كلما كانوا يشاهدونك تمر.
دع كل أوراقك في الأرض. سيأتي إليها عمال النظافة، يحملونها عنك. قم منذ اليوم، لإنزال الجبال عن ظهرك. وخذ وقتا للإستراحة من التعب. ولا بأس بالتثاؤب الكثير والطويل والمتقطع، على منقطع الطرق. وكذلك بكاء الكبير.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين