تفتح الوعي
” الدافع الأساسي لكتابة هذة الرواية، والعودة27 سنة إلى الوراء، هو تسليط الضوء على تجربتي الشخصية مع الإكتئاب(Bipolar Derpression)، ومعايشتي لهذا “الصديق – اللدود”، على أمل أن تكسر روايتي هذة الأحكام المسبقة والمحرمات الإجتماعية التي تمنع كل من يواجه تحديات عقلية من التحدث علنا، والخروج من عتمة العزلة إلى نور المجتمع والحياة.”
أول ما يرصد الكاتب حياة طفولته، حين يعزم على البدء بمشروع تحرير صفحات من حياته. يبدأ بالعتبة التي حبا عليها. يتلمس بلاطاتها المرصوفة بأكفه النحيلة. ويتبع خطوط ريقته التي كانت تسيل من فمه وهو يلهث، لشق طريقه بين أفراد العائلة. ذلك المجتمع الصغير: من الأبوين والأخوة والأقرباء والزوار. فيأخذ من خيوط فجره الأول، ما يتدرب على نسجه كرة أو ثوبا، أو رقعة من شمس.
“زياد كاج. سحلب. نلسن – بيروت- الحمرا. 250 ص. تقريبا”.

ربما تعرفنا من خلال هذا العمل الروائي، على وجوه حياة المؤلف نفسه، أو على ما يحرر نفسه، من أشواق ومشاق. ومن ذكريات، ساهمت في صناعة أدبه، الذي بدأ من هناك، يتكوكب عملا بعد عمل، حتى صار فيما بعد خزانة ثقافة، وسجل أدب، ومشوار حكاية وعمر.
“كانت الصدمة بمثابة زلزال ضرب عائلتنا الصغيرة والمتوسطة الحال. وكانت تحاول الصمود والبقاء وسط آتون الحرب وإرتداداتها…. صمدنا منذ إحتراق فندق “الهوليدي إن” سنة1975، حتى اليوم.”
لا ينسى الكاتب زياد كاج، أن يحيط قارئه، بكل ما كان يشكل بدايات وعيه، وهو يرى إلى ما حوله، فيجعل منها، لوحات أدبية أخاذة. ينسل خيطانها من نسيج عينيه اللتين تصنعان الدرب، قبل أن تصنعا الغابة التي هي غايته، للتفيؤ في ظلالها، وقد رأى بعينيه، كيف أخذت الشمس تنتصف فوقه، فتجعل جبينه ينضح بعرق الكد والجد والكدح والكتابة الشاقة.
“أحيانا يعمل العقل البشري بقوة شديدة لدرجة أنه يصبح قادرا على التنبه لأمور وأشياء كان في غفلة عنها. هل هذة هي حبيبتي التي أحببتها لأربع سنوات، وكنت أفلس من أول الشهر كي أتمكن من دعوتها إلى مقاهي الحمرا ومطاعمها؟… من يضحك إمرأة في هذا الشرق التعس يمتلكها. لم أعد قادرا على رسم الضحكة على وجهها الجميل؟ صرت ساحرا، فقد للتو مواهبه.”
رواية زياد كاج، “سحلب”، التي صاغها باكرا، تنبئ عن ولادة كاتب عريق. يأخذ كل علمه من الدروب التي إنتعلها على مدار الساعات والأيام. وداخل الحجرات. ووراء الورقة والقلم و”اللاب توب”. فترى كيف تتنزل عليه الأحداث كما الزخات الماطرة، آيات، آيات. يقف حيالها واصفا، مندهشا. فيسرد لنا التفاصيل بعناية دقيقة. دون أن ينسى الشاردات منها. يجلس كما عالم، يتبحر في كل شيء. حيث هموم الحياة ومشاقها. ويسردها لنا. يعلمنا فن السرد عن غير قصد. وكأنه يتمم لنا حديثا مضى، ولم يكمله لنا.
” أشعل أخي سيجارة وخرج إلى الشرفة. لطالما كنت أزوره في مكتب الوكالة الكائن في طابق علوي في بناية “صحيفة النهار” التي تقع في أول شارع الحمرا، بعد المصرف المركزي.”
زياد كاج، الكاتب اللبناني، بل الروائي الذي صنع نفسه بنفسه، من خلال تتبع خيوط الشمس في أروقة وجنبات الجامعة الأميركية الخضراء في رأس بيروت، إنتهى أخيرا إلى الكنوز الثقافية. كانت بركة يديه وجماع صدره الذي إتسع لها، وهو يتجند كل يوم، ليعمل عمله. وليحفظ ما يلتقط من صور جمة. يحفظها في أجندته اليومية، ثم يصيغها مساء، قلائد وقلنسوات وتيجانا وقمصان حرير، لتلك العروس التي صادفها غفلة في رأس بيروت.
“أختي كانت فتاة حساسة وتخاف علي تحديدا. كأنها حاملة وصية مقدسة: أن تنتبه لي وتبعد عني الأخطار. أذكر مراهقتها في حينا في رأس بيروت. ورفقتها المميزة مع صديقتها كارمن، إبنة عائلة آشورية متواضعة سكنت قربنا… أجمل صورة إلتقطها لهن وهما تقفان بتحد وعنفوان على سطح بنايتنا قرب خزان البناية.”
زياد كاج، أكثر من باحث وقاص وروائي. هو عامل البساطة المنتشر مثل قفير من النحل على الأقاح. يلتقطه من تيجان البراعم والثمار والأوراق، ليصنع العسل والشهد.
“الحقيقة العارية يصعب إحتمالها، خاصة في بلد صغير ومتناقض. كان قدري أن أعيش وسط تناقضات هذا البلد “الملعون” منذ الصغر…. كان قدري أن أكون غريبا في عالم غريب.”
كل شيء تحت عيني زياد كاج، إنما هو صفحة لمجد الكتابة. يعرف مسبقا، أن مجده من مجدها. وأن البريق على الحصوات، وهو ينسل الدرب، إنما يصلح لإنارة الظلمات والتضوئة على الحقائق المطمورة ككنز.
“تعلمت أن أحب من يحبني ويبادلني المشاعر والأحاسيس. وأن العاطفة الإنسانية النبيلة تعطى ولا تطلب. وأنني شخص لا يليق به الحب كثيرا!. وتعلمت أن “قارب العائلة” هو أهم بكثير من السفن التي ترسو على ميناء الصداقة من أجل المصلحة.”
عالم إجتماعي، هو زياد كاج. بل باحث أركيولوجي. يلتقط ما سقط من العابرين والغابرين على طرقات الحياة، ليجعل منها أنظمة لا نزال نرها بعينيه، تسلك بنا ألى اليوم.
“لقد فشل الحزب الشيوعي في هذا البلد، ومثله باقي الأحزاب العلمانية، لأنه ساير بعض الطوائف ولعب لعبتها على حساب طوائف أخرى.”
ما هذا الأديب الفذ، الذي ما أضاع وقته، وهو يعري الغابات بحثا عن أبجدية الكتابة. كان يعرف مسبقا، أن الناس أضاعوا غاياتهم عن قصد. فحدب على جمعها في روايته الأخاذة “سحلب”، وقدمها لصباحات الأسواق، في مدينة تشتهي أن تموت، حتى تعف عيناها عن رؤية ما ترى.
” صديقي الضابط ألتقي به من وقت إلى آخر، ليلا في مقاهي بدارو. مما جعلني أعشق تلك المنطقة لرقيها وطابعها الأوروبي نسبيا. … “صديقي الآخر” صاحب خدعة كرة السلة… ترك البلد ليعمل في قطر… ألتقيه حين يزور بيروت.”
العفاف والكفاف والبصر الحديد، هو ما يميز حقل الكتابة في أدب زياد كاج. درج على سلم الوعي وتسلقه باكرا. ثم نراه اليوم ، كاتبا وروائيا وقاصا ألمعيا، كما تفتح الوعي برعما واعدا بغصن رطيب!.
“صديق البحر” سبقني إلى السيارة، وهو ينظر إلى ساعة يده. يبدو أن الزيارة قد أنهكته. أما أنا، فكنت في رحلة زمنية أخذتني27 سنة إلى الماضي.
مرت لحظات، عشرة أيام، ربما سنة وشهر.. وأنا أحدق بنفسي من فوق.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين