عبد الغني طليس في أوركسترا الشيطان:
تجربة الشعر وصنوه
“ليس إختراعا أن نقرأ كتابين في كتاب واحد، وهذة المرة بإسم “أوركسترا الشيطان”. الكتاب الأول في “أوركسترا الشيطان” هو ديوان شعر كلاسيكي بعنوان “أنا حسن”، يخوض في الحرب وأهوالها ودمها ودنوعها ومستحيلاتها، ويبحث في ثنايا الأنا والآخر والعالم الكاسر، ويطرق أبواب الماوراء الذي ندق به رؤوسنا إستخلاصا لأجوبة لا تحضر، وذلك… عبر تقسيم لغة وخيال يتحركان ببعد وجودي، راسميز رؤى الإمساك بخيطي الحياة والموت، وعلةقتنا الأبدية بهما على مرأى التأمل والتحمل والأفراح والجراح.”
معظم الشعراء، لا يستمرون كثيرا في كتاب الشعر، حتى نراهم يبرحونه إلى كتاب النثر. تمام مثل الإبل: فإذا ما ملت من البقل، تحولت إلى الحمض. وهذا كان يجري أيضا في الدواوين الخاصة والعامة، خصوصا في مجالس الخلفاء والأمراء. كان سيد المجلس، كثيرا ما يطلب من المنتدين، بعد المطارحات الشعرية، أن ينتقلوا لإبداء رأيهم في الشعر وفي القصيد. كان يكفي أن يقول لهم، بعد سماع المطولات الشعرية، في المديح والهجاء والتهاني والمراثي والوصف والحكم، أقول: كان يكفي أن يقول لهم: “حمضونا”، حتى ينتقل مجتمع الديوان، من الشعر إلى النقد. فكانت المجالس الشعرية تظفر أيضا، بالمطارحات النقدية، تماما كما أتيح لها أن تظفر بالمطارحات الشعرية.
أتى الأستاذ عبد الغني طليس، بعمل رائد في حد ذاته، حين جعل الشعر وصنوه النقد في كتاب واحد. حتى أنه كان منصفا في ذلك، بحيث أتى الشعر في كتابه، بحجم النقد. من حيث عدد الصفحات تقريبا، ومن حيث عدد الموضوعات. أراد بذلك كما يخيل لي، أن لا يربو أحد على أحد، في كفتي الميزان، وبين دفتي الكتاب. حتى أنه قال نفسه بنفسه عن نفسه: أوركسترا الشيطان كتابان في كتاب. فأسمى الأول: أنا حسن( ديوان شعر). ثم أسمى الثاني: والشعراء يتبعهم…النقاد( مقاربات نقدية).

في ديوانه الشعري الجديد، إلتقط البرهة الساخنة. فقد كتب مجموعة القصائد، تحت غارات العدو التي كان يشنها على لبنان. كان عبد الغني طليس، يغير بالشعر، سلاحه الوحيد، على عادة الشعراء المقاومين الذين لا يملكون بين يديهم سلاحا غيره. وكنا نراه في كثير من الأحيان كيف يفيض بالأحاسيس واللواعج. ولا غرو، فهو الممتلئ بها. أترعت كأسه بها، منذ اليفاعة، فما كنا نفاجأ بهذة المفاجآت الشعرية الجديدة، والتي كانت تتساوق مع مفاجآت العدو. أخذ المفاجآت جميعا بصدره العريض، وصار يرد عنا كيد العدو بالقصيدة الساخنة.
“مضى مثلما تمضي الأساطير خافيا/وقال أنا ما كنت إلا أمانيا
…نفخت بها روحي فصارت حقيقة/وقربتها مني، فصيرتها ليا
عرفت مكان السر في قبضة الفتى/ وصوبت نحو الشر عيني عاتيا
وبيتي ظلاما كان، ما همني دجى/ فقد كان فيض النور للأهل كافيا
أنا حسن عند الحسين وصيتي/ حياة وموتا رائيا لا مرائيا
ربيت وكان القهر يعصف صاحيا/ فكنت عليه بين من نام… صاحيا
…وما إخترت… لكن الحياة تقنعت/ فبت على سيفين من كربلائيا
… هو المجد أن يعطي الصمود قصيدة/ عن الأرض تحميها الدماء سواقيا
وتمنع شذاذ الشعوب وبغيهم/ عن الإحتلال المر يغدر زاهيا.”
أحر قصائد الشاعر، كانت قصيدته: “أنا حسن.” وجد نفسه في برهة التخلي، أن جميع نيران العدو، كانت تصب حممها عليه، حين كانت تصب غضبها من سيد المقاومة، سماحة السيد حسن نصر الله. فهو عند الشاعر، برهة الشعر وبرهة الشهادة. جمع بين البرهتين في نفسه، وسبق شعراء الجنوب إلى السطوع نجما، في سماء الأرض التي تحترق بحمم العدو ونيرانه.
“يجئك من أين الكلام… كأنما/ قبضت على تسع وتسعين مرجعا
وفي الذكريات الحمر أرجعتني فتى/ يلملم بين النفس عطرا تضوعا
كمن حملته غيمة في دروبها/ فبات على وصف المواجع أوجعا
كمن حررته ضفة النهر فإرتمى/ يغسل رجليه بحبر… فتسطعا”
تماهى الشاعر والشهيد في اللحظة الواحدة، حتى صار يتلمس نفسه. يلتقطها خواطر وآهات وعذابات، وتراجيديا شعرية. فيها من عذوبة الفناء الصوفي، ما فيها من عذاب الجمر والقهر الذي يحرق حجارة المنازل والديار والأقمار.
” هم المقاومة إمتدت جذورهم/ أعلى فأعلى، ومنها أوسعوا كرما
قد أدركوا بعد مر الدهر أنهم/ لن يسمعوا غير أرض تحفظ القسما
ولن يبالوا بأجيال تفلسف ما/ مضى من القدر المخذول وإحتدما
وتحسب الخوف ميراثا ومكتسبا/ وبالسلامة حصرا تبلغ الشيما
العقل بالعقل هذي خطة صدقت/ مع السلاح، على ما الفجر قد رسما”.
كان السيد يشع قمرا تحت الركام. وكان الشاعر، يكاشفنا في كل بيت أنه يلتقط الثواني التاريخية، من الأبد الجاثم على صدر البلاد. كان الشاعر يرى إلى الركام وهو يتشقق عن قامة بحجم البلاد، التي ناءت بأثقال المجرمين، وهم يجربون أعتى السلاح. كان جسد السيد يخرج من عيون الشاعر بطلا تاريخيا، ما وجد مثيلا له، لدى سائر الأبطال التاريخيين النجب. كان الشاعر حقا، في قصيدته: “أنا حسن”، كما في ديوانه كله، بصورة السيد في لحظة الإستشهاد والشهادة. فرن في أذني صوت شاعر آخر، وهو يصرخ فى البرهة القاتلة أيضا: “أنا يوسف يا أبي..”. إنه الصدى الشعري الواحد في نفوس الشعراء جميعا، في ليل الجريمة. يعود إلينا الصدى، مع الأبطال، ونلتحم بهم، ويلتحمون بنا.
” هو الشعر لم يخلق لدار سلامة/ بل الأصل أن يغلي إكتساح المحرم
أنا ذاهب نحو الرصاص أصوغه/لأهلي تباشيرا، وثورة بلسم.
فراغي هلامي سأملأه هوى/ وبالخطر الباقي علي… سأحتمي!”.
ترك الشاعر في نفوسنا أثرا عميقا بعد عين، ليحملنا إلى سفوح النقد. حيث الموضوعات التي تعالج فنية الشعر، تماما مثلما هي تأخذ بجمله، من يد صاحبه الذي غاب عنا.
يستذكر عبد الغني طليس الناقد، كوكبة من الشعراء القدماء والجدد، في خواطر نقدية، حلوة حتى مرارتها وقساوتها. ولا غروى، فهو أنيس المجالس، حيث تنشق عنها المطارحات العفوية. وهو يميل بها إلى إسعاد القارئ، برأي نقدي عفوي، لا نجده في الكتب الأكاديمية.
“هو كتابي النقدي الثاني… وكما أنني في الكتابين الأولين، لم أستعن بما كتب النباد الآخرون، أو إستلهموه، أو أدركوه من شعراء قدامى ومعاصرين، كذلك في هذا الكتاب إعتمدت منطقا يحاول إجتياز ما تحقق من نقد حولهم، لأطل على رؤيتي الخاصة بهم، والمبنية على دقة المراقبة والبحث الخالي من الأهواء، بلا مبالغات يلجأ إليها الكثيرون عادة”.
حقيقة، نشأة النقد عند الأستاذ عبد الغني، إنما هي نشأة عفوية. وكم أفاد النقاد من النقد العفوي، وجعلوا لأحكامه قوانين ومدارس. هكذا يقول الشاعر نقص الشعر، دون أن يعير إنتباها إلى آراء النقاد الذين يهذبون النقد. فالأستاذ عبد الغني طليس، إنما يميل إلى النقد العاري، الذي لا يحتاج إلى توصيف، لأنه من منبت الريف الفني والنقدي، أكثر منه نقدا له سقوف الأكاديميات. و أكثر ما يحتاج الشعراء مثل هذا النوع من النقد، لأنهم يرسلون شعرهم على عواهنه. ثم يمضون دهرهم في الصقل والتشذيب.
“الشاعر الماغوط، صنع في الشعر هيكلا فنيا، أبى هو قبل غيره، أن يسميه هيكلا شعريا. لكنه إنتشر وأثمر لدى الكثيرين… وصنع في كتابة المسرح، هيكلا على الخشبة، إحترم البني آدم العربي وعزز مضمونه.”
الأستاذ عبد الغني طليس، فالق الشعر والنقد. وهو عذب ولذيذ في جميع ما يرسله لقرائه. لأنه يعرف في الأصل كيف تكون الرسالة، ثم يذهب بعد ذلك لأدواتها: شعرا ونقدا، وموجات صوتية على الهواء مباشرة..
” رحل أمل دنقل عام 1983، عن ثلاثة وأربعين عاما، وكان يسمى”شاعر الرفض”. كان شاعرا بمفهوم الإلتزام الذي كان يومها إرتباطا وثيقا وعاليا بقيم الوطن والمجتمع. ومع أن مبدأ إلتزام الشاعر أوسع إنسانيا وكونيا، إلا أن أمل دنقل كان يراه في أرضه وفي الناس الغلابة، وفي الشعور الكبير بالإنتماء إلى أمة، قبل الشعر وفيه، وبعده”.
( ” أوركسترا الشيطان ” للشاعر عبد الغني طليس ، صدر حديثا عن دار ” زمكان ” في بيروت )
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين