هيثم الأمين في كتابه الجديد: “كأنهم أحلام”
أدب الذكريات
” ها قد ذرفت على السبعين. ما أسرع ما إنقضت تلك السنون. وكنت كلما تقدم بي العمر ورجعت إلى بيت أبي تمام:
ثم إنقضت تلك السنون وأهلها/ فكأنها وكأنهم أحلام
أشعر بالإعجاب والاسى، لما في هذا البيت من الحقيقة.”
تفيض نفس الكاتب أحيانا عن حدها. يسيل بها الزمن. يحملها كما يحلو لها، بلا إنتباه ، إلى حيث تحب وتعشق. تتركه هناك. حيث الحياة التي طابت له: صغيرا وكبيرا. وعالما ومتعلما ومعلما. وطفلا يدب، وأبا يحنو وجدا يراجع الأحلام.
” كان الحديث متشعبا بينهما. ذكريات وشعر وأصدقاء. وقد إكتشفت في هذة الجلسة مدى ما كان بينهما من وشائج.”
لا أعرف كاتبا، مزج الألوان الشتى، بالطريقة التي مازجها الأديب والشاعر والأستاذ الجامعي، هيثم الأمين، وهو يحرر سيرته الذاتية. نتابعه بكل شغف، في طموحاته العذبة. منذ نزوله من قريته الجنوبية “الصوانة” المهداة له، من أهله الذين باكروا وغادروها، إلى وصوله إلى أبواب الجامعة فاتحا عصرا من الزهو العلمي. ومن الزهو الشبابي. فلا تعرف بما تصف أدبه، في هذا السفر النفيس الذي وضعه للقراء، فلامس في كثير من نواحيه، شجا عندهم.
” كانت زيارة غرناطة غرنادا بالإسبانية، الآثر لدي. فقد كانت رمز الأندلس عندي. والحق أن العرب، لا يزالون حاضرين فيها…”
نكاد نتساءل، أهو أدب الترسل والمراسلة. أم أدب العلم والعلماء. أم أدب الترحل.أم أدب السفر. أم أدب الوعاء العائلي. حقا، إننا لنجد في هذا الكتاب ضالة كل قارئ، يبحث عن لون من ألوان الكتابة، التي لربما، لا تخطر على بال. فالدكتور هيثم الأمين، إنما هو إبن بجدتها، في كل ما يقرأ وفي كل ما يكتب. دب على درب الأدب، لأن أدراجه، كانت بعض منازل أجداده. فهو سليل عائلة، كما بنو حمدان: وجوههم للصباحة وألسنتهم للفصاحة. وربما أزيد من ذلك: لأن يصنعون في مآتيهم، كل يوم، بعض أيد للسماحة أيضا. تلك التي إعتادوها، وهم أهل الدين وأهل الدنيا. وهل الحياة عندهم إلا كذلك: منهم الأدباء والشعراء والمتفقهون لغة وعلما. ومنهم الفقهاء الذين يسيرون في الأرض، يبغون الهدى والهداية.
“لم تكن الأمور بيني وبين ريتا، على خير ما يرام. فنحن نعيش وكأننا منفصلان. نلتقي في سهرة أو على عشاء أو في مقهى. فلم يكن ما يربطني بها بإعتبارها زوجتي، مشابها لما يربط الأزواج بالزوجات، بالمفهوم العام للزواج.”
الدكتور هيثم الأمين، صديق الكلمة على عظمتها. وصديق الكتاب على علمه به. وصديق الأدب، الذي أشرع له كل السفائن، حتى كاد أن يتوه بينها.
” حين جلست في القاعة الكبرى، بدأت أتأمل حجارتها المقصوبة غير المنحوتة، فبهرني جمالها الطبيعي. ولم تدخل الشمس القاعة طوال النهار. لكنها كانت منارة إنارة كاملة.”
في ماهية هذا الكتاب السفر، يتبدى للناظر فيه، كم كان الكاتب دقيق العلم ودقيق النظر. كم كان شغوفا بأدب الحياة، حتى صنع لها لبوسها، بهذا الكم من الإستطرادات الحلوة الجميلة. فهو يذكرنا بأدب الجاحظ، الذي يأخذ من كل علم بطرف. إنه أدب الرحلات، أم أدب السفر، أم أدب الرحلة في طلب العلم. فهذا كله كان شأن هيثم الأمين، وهو يدبج الأوراق الندية: علما وأدبا وعاطفة وحنوا أخاذا.
“البلبل الألؤف/ في جوه يطوف/ يطوف في جواري/ مغردا في داري/ غناؤه مسحور/ يضيء منه نور…. وإذ يغيب عني/ من سأمي أغني “

يقع كتاب الدكتور هيثم الأمين، “كأنهم أحلام”، في أكثر من خمسماية وعشر صفحات. وصدر له حديثا عن دار النهضة ببيروت-2025. يتحدث فيه عن سني عمره التي نافت عن السبعين. ويعرض لنا تجربته الغنية في شؤون الحياة كلها: فأنت ترى صفحات عن حبه الأول. وصفحات عن علمه الأول. وصفحات عن ألوان حياته الأولى. ولا تلبث أن تجد فيه أدب الرحلة، بين الصوانة، بلدته التي ولد ونشأ فيها، وبيروت التي إنتقل إليها للسكن فيها مع أهله في محلة “رأس النبع”، منذ أعوام الإستقلال الأولى. حيث كانت العاصمة بيروت، تضج بالعوائل من مختلف أنحاء الدنيا.
” بيروت / الصوانة، صيف وخريف سنة١٩٩٣، وأنا على عتبة الخمسين. ولما سمع غيان القصيدة إستنكر وقال: وأين نحن وريف؟”.
وكما في سيرة طلاب العلم، أسفار ورحلات، إلى العواصم المختلفة، كان سفر الدكتور هيثم الأمين، من كلية الآداب في الجامعة اللبنانية في بيروت، إلى الجامعات الفرنسية وإلى الجامعات الإنكليزية، وإلى الجامعات المغاربية. وكان في كل هذة الطريق التي قطعها، لا يكف ولا يعف ولا يعتكف: فهو رجل الدنيا وواحدها…
“كانت صلتي بهدى لم تنقطع إذ كنت ألتقيها من حين إلى آخر لأتسقط أخبارها. ولم تكن صلتها بخطيبها على أحسز ما يرام. فهي تشتكي من غموض موقفه منها. وعدم إتخاذه قرارا حاسما في صلته بها.”
حقا، كتاب الدكتور هيثم الأمين: “كأنهم أحلام”، أطروحة دقيقة لأدب الحياة. حيث نجد فيها، كل ما دق معناه من شؤون وشجون، هي طوع بنانه، مدى الصفحات المديدة التي قطعها بسفره العظيم، والتي نافت عن الخمسماية. إنها لتجربة بحار عريق، في شؤون وشجون الدنيا كلها.
“وها أنا وقد ذرفت على السبعين. بل قاربت الثمانين، أسير وحيدا على الكورنيش بخطى ثابتة. وأتنشق روائح البحر المشبعة باليود، ممزوجة بجميع أنواع التلوث في الماء والهواء، وأرى إلى الأفق… ما أسرع ما تنقضي الحياة!”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
