نهر الليز
جميع المدن التي بنيت على ضفاف الأنهار، ترك النهر عليها بصمته، أنفاسه، عطر أمواهه، بكرم الأنهار التي أعطت ولم تأخذ. حتى ضربت بها الأمثال، في جود العطاء.
هذة هي حال نهر “أبو علي”، في طرابلس، يجمع أمواهه من عذاب الينابيع، في المكمل والقرنة السوداء. ثم يجري بها إلى وادي قاديشا، وعلى حوافيه: البساتين والكروم، ثم يستأني قليلا في المرجة، يستجمع بها عزائمه، ليكمل مسيرته تحت القلعة والمولوية، إلى طرابلس، فتنصب له القلاع والحاميات والحصون والتكايا. فتؤمه المدينة كلها، تطلب خيراته من خيره، وتنشيء حوله الأسواق والساحات والباحات. ويجتمع الناس إليه: يوزع عليهم الماء بالصنابير و بالكيلة. ويوفر ما تبقى من كنوز مائه، لبساتين الليمون، والغيطان والأحواش، حتى يكون مسقى الفراشات والحساسين وطيور البجع والنورس. وبساتين وجنائن البرتقال و الليمون. فيمنح ضفتيه بهاء الجنائن وصفاء العيش. وفوح المدينة الفيحاء. ليصب ما تبقى عنده من اللجين، في حوضه، بالمتوسط الكبير، بالقرب من برج السباع ومحطة القطار وعنابر المرفأ، وشباك الصيادين.
كأني بي، أكتب عن نهر الليز في الجنوب الفرنسي. كيف يندفع بمياهه الطويلة- Aiglonge من الأعالي. تجري إليه الينابيع العذاب. تحمل إليه أمواهها وخيراتها. وتهديها إليه، كسيد عظيم. تجعلها في خزانته، حتى يجود بها، على مجامع الأرض العامرة بالناس، فتبدو القرى حوله مثل النجوم المرصعة بالذهب والفضة. أو مثل المحطات الجميلة، التي يبنيها المهندسون، حول سكك القطارات. ويدير الطواحين. ويروي البساتين والغيطان . ويسقي ثكنات الجند المخيمة حواليه. ويحيل محيط جانبيه، كغوطة فواحة، مثلما يفعل بردى، بغوطة دمشق.
![](https://mizanalzaman.com/wp-content/uploads/1000103200-768x1024.jpg)
لا أريد أن أحصي القرى التي يغذيها الليز بأموهه الفضية. فليس قديما كثيرا، عندما كانوا يسمونه: “المياه الطويلة- Aiglongue”. أخذوا من طول باعه وذراعه في الأرضين إسما له. وأسرعوا إليه، فبنوا الطواحين والقرى. حتى غدت الطواحين نفسها حوله، قرى بذاتها. وآخرها طواحين كاستلينو، حيث المرج والساحة، يحيطان به، في محلة شارل ديغول الحديثة العهد.
كما مدينة طرابلس، هي هبة شلالات وادي قاديشا ونهر أبو علي، كذلك، فإن مونبلييه، هذة المدينة التاريخية كطرابلس وتوأمها، إنما هي هبة المياه الطويلة، أو نهر الليز، كما يسمونه الناس هنا.
بنى الطرابلسيون مدينتهم، على ضفتي النهر: القبة وأبي سمرا. ثم جرى في السويقة والجسرين والدباغة حتى برج السباع في بلدة الميناء، ومحطة القطار المهجورة، التي خربها المستعمرون، لتقطيع أوصال البلاد.
![](https://mizanalzaman.com/wp-content/uploads/1000103232-1024x768.jpg)
أما مدينة مونبلييه، فقد بنيت منذ قديم الزمان على الضفة اليمنى فقط، للنهر الجاري من الأعالي، حتى البحر واللات وبيرول. وأما الضفة اليسرى، فقد ظلت لزمن طويل، لسكن المزارعين والفلاحين وأصحاب الأراضي. وخطط الجيش، حيث كانت تعمر بالثكنات العسكرية. والتي تمتد، حتى حدود مطار مونبلييه اليوم وما بعده. وكانت جميع هذة الأراضي الشاسعة، هي سقي مونبلييه، تماما، مثل بساتين الليمون بطرابلس، حيث كانت تعرف بسقي طرابلس.
![](https://mizanalzaman.com/wp-content/uploads/1000103226-1024x768.jpg)
كان حاضر الليز، في العصور الفائتة، هي المدينة القديمة، بجنائنها وحدائقها وأسواقها وخاناتها، ومدارسها وجامعاتها وأسواقها. تضحك للنهر من بعيد خشية غضبه في طوفه، بحجرها الكلسي الأبيض، الصلد، تماما كما يضحك النهر بلجينه المترقرق السياب لها.
![](https://mizanalzaman.com/wp-content/uploads/1000103212-1024x768.jpg)
أما الضفة اليسرى، فقد إدخرها لأجيالها القادمة. فبنوا عليها المدينة الحديثة الراقية. ووصلوا بين الضفتين بالجسر الراقي، الذي يربط بلاس دي لوروب، بالمدينة الحديثة. تماما كما حدث في منطقة الضم والفرز بطرابلس. ففي المنطقة التي كان يخيم فيها الجيش الفرنسي بثكناته، في الضفة اليمنى، أقيم المجمع العظيم: بولوغون وأنتيغون وبلاس دي لوروب، حيث تم ربطه بالضفة اليسرى بالجسور المنخفضة و العالية. وبنيت عليها المباني العظيمة، التي إمتدت إلى بور مريان وأوديسيوم، و محلة مطار مونبلييه والمستنقعات. وصارت الشركات والمخازن العظيمة، تتخذ من إرث الليز العقاري الذي إدخره لمونبلييه، ليومها هذا، مساحة عظمى، لمبانيها الواسعة. وظلت تتعهد لنقاء الأجواء وأنفاسها، بأن تبعد عنها المصانع، التي تسمم الأجواء. فظلت مدينة مونبلييه، عذراء المدن الفرنسية. بلا مصانع وبلا بواخر، حفاظا على نقاء هوائها.
![](https://mizanalzaman.com/wp-content/uploads/1000103220-768x1024.jpg)
نهر الليز في مونبلييه، هو حاضر المدينة الجامعية. هو حاضر المدينة السياحية. هو حاضر المدينة الثقافية. وهو أيضا، إلى هذا وذاك، صار حاضر المدينة التجارية.
فأول ما تطأ أقدام الزائرين أرض مونبلييه الخضراء الرائعة الخضرة، بتلالها وهضابها ووهداتها وغاباتها، تراهم يهرعون إلى ضفاف نهر الليز، ويتنزهون على جانبيه من الأعالي، في كاستيلينو، حتى شارل ديغول و بلاس ديلوروب واللات. حيث تنتشر المطاعم والمقاهي ودور السينما . كما المسارح وصالات النوادي الليلية. فكما مونبلييه القديمة، كانت هبة الليز لزمن طويل، فإن نهر الليز اليوم ، إنما هو هبة مونبلييه الحديثة. فهنيئا لمن إتخذها موطنا له. وهنيئا أيضا لمن زارها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
![](https://mizanalzaman.com/wp-content/uploads/1000027503-3-787x1024.jpg)