عرائس مونبلييه
باكرا جدا تستيقظ مونبلييه عرائسها، تماما مثلما تستيقظ جنائنها ودروبها وطيورها وساحاتها ومدارسها وجامعاتها. مونبلييه تغفو على الأمس الجميل الأخاذ في ليلها، وتستيقظ مع الشمس، حين تنهض من بحرها. تغسل وجهها بالندى وترطب شفتيها بالإقحوان وبشقائق النعمان وبالورد.

تقف في سابين، صباح كل يوم،الحافلات والقاطرات، آتية من مدريد وإشبيلية ولشبونة. ترى حسناوات الأندلس القريب يصب إليها، مثل نهر من الحسن، إعتاد أن يداوم على زياراتها. إعتاد أن يداوم على داراتها وجنباتها وساحاتها.
قوافل قوافل، وقطارات قطارت، تصب الحسن جما من الأبواب إلى مقاهي الأرصفة. حيث الشمس والأنسام والبلاطات التي تشتهي القلوب. وتشتهي معها طرق الكعوب وطرطقتها المموسقة.
تبرز عرائس مونبلييه للشمس في ساحاتها. في يدها جعبة الزينة ومرآتها. تستعير أناملها العشر من خيوط الشمس، تفتح الجفنين بالنور، علها ترى ما لم تر في حياتها. تجدد نفسها عند كل صباح، مثلما الغزالة، حين تنهض من كناسها.

عرائس مونبلييه، شلل من الزهر والورد. وأضاميم تتحلق حول الطاولات، ترتشف مع الصباحات كاسات الذهب والفضة. وتأخذ من الشهد أطباقها. تخضل المقاعد، حين ترمي عليها أثواب الزبرجد والعقيق والحجر الكريم. وتعطر الأجواء بأنفاسها. كل شجرة على ساقها، تتكئ على منكب عروس مونبلييه. تضع لها شال الحرير، وتنثر لها النجوم وحبات القلوب. فيصير اللسان يسغو بعذوبة الجدول المترقرق، وتطفو الأسماك على وجهه، ثم تراها تسبح في أثوابها.

صبايا في عمر الحسن، بجدائل من نجوم. وبثغور من ياقوت. وبقامات كأنابيب السنابل، غداة مطرة عابرة، سقتها، كما إيالة شمس في الغداة. صبايا من أزاهير وورود، تفتحن مع الفجر. إرتدين زينتهن وخرجن، لمواعدة شمس الظهيرة. ماذا تقول الحمامات التي إجتمعت على ركبتيها. جثت، مثل “زينة أوثمانية”، فوق قناطر السوق الطويلة في مونبلييه، من القصر المائي إلى قصر العدل، وبينهما ساحة الملك لويس الرابع عشر على جواده. يلكزه بمهمازه، حتى لا يتأخر علينا، ونحن في ساحة النصر والحرية.

جلست قبالة السلم الكهربائي صعودا وهبوطا، في سوق بوليغون. كان مقعدي من مقهى ستاربكس، يريني كيف يعلو الفؤاد. وكيف يهبط الفؤاد. وكنت أقيس سرعات القلب، على مقياس عرائس مونبلييه، الصاعدات والهابطات في عيني، على يدي. كيف تكون العرائس طاقات طاقات. ثم كيف تكون فرادى كنجيمات. كنت أريد أن أحل عقدة هذا اللغز الجميل، على السلم الصاعد بي والهابط بي أيضا، في ثنايا الروح، وفي ثواني البوح، حين مؤانسة العابرات بي، مثل حب يعبر سريعا سريعا، بالسلم الكهربائي.

كل الجميلات في مونبلييه، يحملن قلوبهن في سلال اليدين. في سلاسل معقودة على الأعناق والأرساغ، وفي سلاسل محلولة من شعور، ترف كما أسراب الحمائم على المنكبين.
كان الوقت يطول بي، وأنا أحصي أنفاسي، على وقع الخطوات، في الإقتراب والإبتعاد، من زرافة مقبلة. ومن غزالة تغادر بي، بعد أن نسيت نفسي.
جميع الأسواق والمطاعم والمقاهي والدروب والأرصفة، من نبات. هكذا هي رؤياي لبنات مونبلييه. حدائق وجنائن، من عرائس تغني للطيور. وكل النهارات، هي مغناتها. من قبل الشروق، حتى بعيد الغروب. ترى مونبلييه، مدينة المدارس والجامعات، من عهد طليطلة والأندلس. و حتى اليوم، لا تزال تسيل بها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
