القبلة الهاربة
لا أحد يستطيع أن يدعي، أنه لا يعرف معنى القبلة بأنواعها المختلفة:
القبلة بالشفاه. والقبلة على اليد. والقبلة على الخد. والقبلة على الرأس. والقبلة على الرقبة. وقبلة الصغار وقبلة الثوب. ولثم النصيف. ولثم الأكمام. بالإضافة إلى قبلة الكؤوس و بوسة الكتب. وخصوصا منها قبلة الكتب المقدسة.
لا نريد الإستطراد ها هنا، في أنواع القبلات ومعانيها. ولا في مناسباتها. ولا في دلالاتها. ولا في تبايناتها . فالتقبيل عادة قديمة لدى جميع الشعوب. وهي لا تزال حتى اليوم، جارية عندهم على تقاليدها المعروفة والشائعة. ولم تكن في يوم من الأيام، إلا وهي تحمل في نفسها سرها، دون أن تبوح به للآخرين. بل تجعلهم يذهبون في تفسيراتها بكل حرية. يقلبون معانيها على هواهم. كل بحسب ما يريد من المعاني. مثل من يدخل حديقة الورد. فيختار وردة. يقطفها بطريقته المفضلة. ثم يجلس يتأملها في لحظة الصفاء والخلو. وكثيرا ما يهتز لها. وقد وصف الشاعر الجاهلي إمرؤ القيس، في معلقته، قبلة صغير بقر الوحش لأمه على خدها، فقال في معلقته:
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي/ بناظرة من وحش وجرة مطفل.
وأما القبلة على الخد، فهي لفتة لطيفة وردية. وغالبا ما يكون هذا النوع من القبلة، علامة على المودة. ولكنه ليس بالضرورة رومانسيا بطبيعته.
قبلة على الخد يمكن أن تعني أن الشريك يقدر صاحبته ويحبها. لكنه قد لا يكون مستعدا أو مهتما بعلاقة رومانسية أعمق.
ويمكن أن يكون أيضا وسيلة للتعبير عن الدعم والراحة، خلال الأوقات الصعبة.
وأول من أذاع سر القبلة، في مجالس الأدب، هي ولادة بنت المستكفي في الأندلس. وكان لها مجلس أدبي، يعتاده الأدباء والشعراء. ويقال: إنها كانت عاشقة للشاعر الأندلسي إبن زيدون. وأرادت أن تثير غيرته عليها. فأرسلت بيتن من الشعر سائرين، لا زال الناس يتداولهما حتى اليوم:
أنا والله، أصلح للمعالي/وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكن عاشقي من صحن خدي/وأعطي قبلتي من يشتهيها.
وكانت “المتجردة”، في العصر الجاهلي، قد سبقتها إلى إغراء الشعراء في المجالس الأدبية. وإلى إغوائهم وإيقاع قلوبهم في شباكها. وأرادت أن تغوي النابغة الذبياني، فأرسلت بين يديه ذيل منديلها الطويلة المطرزة التي كانت تتلثم بها، على عادة نساء الأكابر -وكانت تحت النعمان بن المنذر- فخلدت لمسة، بل لثمة منديل مبسمها الهاربة، وهي النصيف، ببيت أثير من الشعر، فقال فيها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه/فتناولته وإتقتنا باليد.
بمخضب رخص كأن بنانه/ عنم يكاد من اللطافة يعقد…
زعم الهمام بأن فاها بارد/ عذب مقبله شهي المورد
زعم الهمام، ولم أذقه، أنه/ عذب إذا ما ذقته قلت إزدد.
وكانت عبلة، محبوبة فارس بني عبس، عنترة بن شداد، قد تيمته بحبها وأوجعته بإبعاده عن خدها و عن ثغرها. وجعلته يتشهى وجهها وخدها ومبسمها. وهو يلطم وجهه وصدره. ويذكر الرواة: إنه كان يخرج على صهوة جواده في الأباطح، ويصيح عليها، حتى كاد أن يجن بها، لشدة فتونها وشدة إفتنانها. وشدة شوقه لمبسمها. وقد تخلدت برهة ثغر عبلة، في معلقة عنترة، وهو في الذروة من الجنون لقبلة منها، منعتها عنه في ديارها، على الرغم من كثرة اللقاء به، فقال فيها البيتين السائرين على ألسنة الناس حتى اليوم:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني/ وبيض الهند تقطر من دمي.
فوددت تقبيل السيوف لأنها/لمعت كبارق ثغرك المتبسم.
لا يتخيل إمرؤ ما صنعت القبلة الهاربة، بالشاعر الأموي “الفرزدق”، الذي كان متيما بإبنة عمه “نوار”. جعلته مضرب المثل بالندامة. فما أستطاعت “نوار” أن تتحمل مجرد السماع بإفتنان العاشقات به، ومراودتهن عن نفسه، وقد كان الفرزدق شابا صبوحا من أعالي قبيلة تميم، لا من أثافلها، كما وصف إبن عمه جرير. وقد رضيت به على كره منها، لأنه إبن عمها. ثم فرضت عليه الطلاق منها، إنتقاما لكرامتها التي جرحتها الغيرة. كما وسواسها القهري. فكان أن هجر الفرزدق حي عشيرته في تميم، وصار يطوح في البطاح والصحارى على ناقته، وهو يهدر غضبا ويلطم خديه ندامة، حتى ضرب المثل بندامته، على فقد قبلة من خد “نوار” إبنة عمه، فقال:
ندمت ندامة الكسعي
لما/ أن بدت مني مطلقة نوار.
وكانت جنتي فخرجت منها/ كآدم حين لج بها الضرار
وكنت كفاقئ عينيه عمدا/ فأصبح ما يضيء له النهار
ولا يوفي بحب نوار عندي/ ولا كلفي بها إلا إنتحار
ولو رضيت يداي بها وقرت/ لكان لها على القدر الخيار
وما فارقتها شبعا ولكن/ رأيت الدهر يأخذ ما يعار.
وكان “الكسعي” قد ضرب المثل بندامته، لكسره قوسه وتحطيمها، لأنها لم تصب الطرائد. ليكتشف بعد ذلك، أنه براها بسهامه الخمسة، ولم تخب قوسه ولو بواحدة منها.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في حفل تنصيبه، وكان في أعظم برهة من الحفل، شاهده العالم كله، وهو يدنو بوجهه، من وجه زوجته السيدة الأولى ميلانيا- والتي كانت قد إحترفت صناعة العروض سابقا، في دور الأزياء- ليطبع على خدها قبلة الفوز بالولاية الثانية.
كانت السيدة الأولى ميلانيا ترمب حقا، نجمة الحفل. خلدت نفسها بالقبلة الهاربة، كما فعلت المونوليزا/ الجوكندا بريشة الرسام التشكيلي ليوناردو دفينشي. إذ خلدت المونوليزا نفسها، ببسمتها الهاربة!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.