مونبلييه/ المدارس والجامعات
قبل أن تستيقظ الأرض من ثباتها، تستيقظ مونبلييه. تتحرك الترامات كلها. تتحرك الأوتوبيسات. لا يخيفها الظلام المخيم. لا وحشة فيها للظلام. فالإنارة لا تستثني، زاوية ولا طريقا ولا دربا ولا ناحية. كل شيء فيها مضاء. تتشعشع الأنوار في جميع أرجاء مونبلييه. تنام في ثوب من النور. وتبدو الشوارع في الليل، من بعيد، كأنها أكمام طويلة لثوب الليل المزركش والمزين و الجميل، خصوصا حين يتوقف الترام في محطاته. أو حين تتوقف الأوتوبيسات، ويندلق التلاميذ والطلاب منها، إلى أبواب المدارس والجامعات.لا يتأخرون عن اللحاق بالصفوف، مهما كان الليل ساجيا عليها. مهما كانت حلكة الظلام.
كل الدروب، مع الفجر في مونبلييه، إلى المدارس والجامعات. ترى الطرقات جميعا تسيل بهم، قبل أن يطبع الفجر بسمته على الروابي والشوارع والأبواب. تستيقظ مونبلييه في الخامسة فجرا. فينهض الأهل، يستيقظون أبناءهم. ثم تبدأ الرحلة. ويبدأ الإستعداد للتحضير للدوام المدرسي، بلا تأخير. وبلا تذمر. وبلا وحشة من الليل، الذي لا يزال يخيم على المدينة، يتثاءب ببطء شديد حتى التاسعة بالتوقيت المحلي. غير أن المدينة لا تنتظر، فيخرج الجميع يلاقون أعمالهم. يلاقون مدارسهم والجامعات. يسيرون نحوها، جماعات جماعات: زرافات ووحدانا…
مونبلييه، مدينة المدارس والجامعات. هذا هو إختصاصها الذي إشتهرت به منذ قديم الزمان. هذا هو لونها. هذة هي علاماتها. إبتعدت عنها المصانع، فخلت من الضجيج ومن جميع ألوان الملوثات. وإنصرفت بهدوء إلى قاعات التدريس، من روضات الأطفال، حتى أبواب التخصصات جميعا، بلا إستثناء.
ترى مباني المدارس، منتشرة في جميع النواحي. وفي جميع محلات المدينة. فلا محلة بدون مدرسة للأبناء الصغار. ولا يصح في مونبلييه، أن ينتقل التلاميذ الصغار، إلى المدارس البعيدة. فهذا من العيوب الثقيلة، التي لا يتحمله عمدة المدينة/ رئيس البلدية. ولهذا تجد المدارس منتشرة في جميع الأماكن والأنحاء. فمدارس الدولة متوافرة، حيث شاء الأهل. وكذا المدارس الخاصة. ويدخل الجميع في السباق، على نجاحات الصغار.
أجمل ما في التعليم الإبتدائي، هو أن المدارس تخرج بالصغار، إلى النواحي. إلى المزارع. إلى ساحات المدينة، القريبة والبعيدة. تراهم خطوطا خطوطا مع المربين والمربيات، كانهم من رسوم المدينة على الأرصفة. لكل أربعة من الصغار، مرب أو مربية، يرافقهم. فلا ينزاحون عن الخطوط المرسومة لهم. يتبعون بعضهم بعضا، مثل جماعات الطير، حين تهاجر إلى الأمصار. يصغون إلى الإرشادات التربوية بإهتمام. وحين يقفون في المحطات، ترهم مثل باقات الزهور. أو مثل ياقات مرسومة بالنور. فها هو كل صغير، يأخذ محله، حتى يكون في المستقبل رجلا مكتمل الرجولة، علما وأدبا ونشاطا، بإمتياز.
وأما الجامعات والأكادميات، فهي منتشرة في كل حدب وصوب. وبجانبها الأبنية السكنية للطلاب. وكذلك المطاعم التي أعدت لهم بأسعار تشجيعية. وفي كل ناحية من مونبلييه، مدينة جامعية، تحتفل بنوع من الكليات ذات الإختصاصات المتنوعة. وهي متوافرة للجميع بالشروط العلمية المعهودة. وليس هناك من طالب، يقصد مونبلييه لطلب العلم، إلا ويجد تخصصه فيها.
النقل المجاني، مؤمن لجميع التلاميذ و الطلاب في مونبلييه. وهذا وحده من علامات الحرص على طلب العلم والتعلم. فهو بقدر ما يكون غاية، فهو حاجة للنهوض بالبلاد. إذ المدارس والجامعات، في مونبلييه تبدو شديدة الحرص، على عدم إستثناء أحد من طلب العلم والدراسة. والوصول المجاني إلى المدرسة…
مونبلييه، هي حقا مدينة العلم والعلماء. فلا تزال محافظة على تراثها القديم، منذ تأسست فيها المدارس و الأكايميات والجامعات، في القرن الثالث عشر. فكانت منذ ذلك الزمان البعيد مقصد طلاب العلم، من جميع البلدان والدول والأمصار. وخصوصا من طرابلس، ومن لبنان وسوريا والأردن، على وجه الخصوص. ولا تزال أبنيتها القديمة في وسط المدينة، قرب “بيرو”، حيث مسقط الماء وقناطره الحجرية الجميلة، شاهدة على دورها الرائد، لدى جميع الأجيال. تحتفظ بدور العلم والأكادميات والجامعات، كمتاحف حجرية بيضاء فارعة باسمة، قديمة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.