ترام مونبلييه الرجراج
أعذب الأوقات حين تمضي وقتا طويلا أو قصيرا في ترام مونبلييه. تستمتع حقا، برجرجة حلوة للغاية. تعيد إلى ذاكرتك الركوب في العربة، من أمام الخان في طلعة العمري بطرابلس، إلى محلة التل. أو من محلة التل، إلى الميناء وشارع بور سعيد.
يا لها من أوقات جميلة، حين تتمايل ذات اليمين وذات الشمال. تأخذ ترام مونبلييه من المحطة التي تقف فيها، ثم تكون لك تلك الرحلة الممتعة. تلك الرحلة الرجراجة. وكأنك تقرأ أرجوحة القمر، إلى ساحة كوميدي في وسط المدينة. ومن هناك، ينساب بك الترام مثل الأفعوان، أو مثل جدول من الماء، يكركر إلى أطرافها: بإتجاه سابين أو جاكو، أو سان جان فيداس أو أوديسسيوم. أو إلى سائر المروج على الشاطئ الرملي. أو تنحو نحو القرى الصغيرة الحلوة، على شاطئ البحر: اللات وبيرول وكورنو وإيغون مورت وغيرها، مما لا أستطيع تذكرها كلها وأنا المنبهر بشدة جمالها ورونقها الأخاذ. وأنا المأخوذ برجرجة الحصان الخشبي، صبيا يلعب على المرجة، أو في ساحة القرية، أو بين أزقة باب التبانة، قبل أن تطالها عصابات الحروب.
تأهلت مونبلييه منذ وقت مبكر بخطوط الترام. وهناك ورش دائمة في المدينة، لإستحداث خطوط جديدة للمناطق البعيدة وللأطراف النائية. أراها كلما كان يرجرج بي الترام، صباحا ومساء، بين هنري دينو وسان إيلوا. فإرادة التصميم على الربط، بين مونبلييه ومحيطها الجامعي، ماضية لتحسين النقل إلى ضواحي المدينة. وتلافي الضجر والملل في الريف المحيط بها. وما فيه من القرى والبلدات والأماكن الجميلة. فيقوم الترام بتسهيل مهمة التواصل السريع بينها. وتمتلئ ساحة مونبلييه بالزائرين القرويين. الآتين من موسون، حيث مساكن المغاربة، الذين عادوا مع الجلاء الفرنسي. أوتمتلئ القرى والبلدات في ريفها الأخضر الجميل، بالمتنزهين، الذين ينفثون عن كربهم داخل جدران المدينة، برؤية اللوحات الطبيعية الأخاذة، في الروابي والوديان والقمم والهضبات والمنبسطات. تراهم يتراقصون وهم ينزلون من الترام، وكأنهم لا زالوا لتوهم في ترام مونبلييه الرجراج.
يؤمن ترام مونبلييه الرحلات الدائمة، في جميع الإتجاهات حول المدينة التي تحولت إلى مدينة جامعية. أو إلى المجمعات التربوية: المدرسية والثانوية. وكذلك إلى النواحي البعيدة بمنطق الإستخدام، على مدار الساعة، في الليل وفي النهار. فترى الترام ينسحب، مرة ببطئ شديد. ومرة بسرعة قصوى. ومرات بسرعة متأنية ومتوالية. يغذ عجلاته على وقع السرعات المختلفة والمتناغمة. فهي مصدر رجرجته الأخاذة، خصوصا حين يكون مزدحما بالعائلات. أو حين يكون شبه فارغ من الركاب. يخبط السكة بصدره، حتى ليكاد يقتلها. فتأتي رجرجته موقعة، على سرعة العجلات. أو على وقع كابح السرعات. وربما على إيقاع من شدة حركته، حين تقرصه المنحنيات، عند المفارق، أو عند المنعطفات الشديدة الزوايا. أو لدى دورته المعتادة، عند مستديرة متمايلة. تتكسر فيها السكة، مثل إنحناءات الهندسات المعمارية، في أعمال زها حديد الراحلة.
نعم. ترى الترام يهتز متمايلا مترنحا، مبهورا بنفسه. متشاوفا على السيارات الصغيرة والكبيرة، مثل زعيم زقاق لبناني، يجرجر وراءه ميليشياه، ويأكل الأرض بخبطاته العسكرية. وبإبتساماته التي ينفثها من زموره المعتاد، بثلاث ضربات. كأن مآتيه كلها من الأمور المعجبة. يتلمسها نفسه بنفسه، في وجوه أهل مجتمعه، وكأنهم يصغون لحكاية عنترة بن شداد، يقصها الحكواتي مساء، أوائل الليل، في مجتمع دمشقي، على مسمع الشبان المتطاولين بعصيهم إلى سقف ساحة المرجة. أو إلى دكان الحلاق الدمشقي، يؤرخ لقصص السمندر وغزوات الجراد، في القرن الحادي عشر للميلاد.
أجمل ما في رجرجة ترام مونبلييه، هو حين ينزلق على المفارق. يلتقي بترام مقبل. يلوح السائق للسائق، يحييان بعضهما بكل نبل وأخلاق. ثم يسرعان في التفارق، فتكون لكل ترام رجرجة عظيمة. تنهز لها ضواحي مونبلييه من وقع اللذة. فترى مجتمع الترام من الشبان والصبايا، يتسلقون السقوف ويشدون بأيديهم على العمدان، وكأنهم يوقعون الدبكة اللبنانية، على مسرح جوبيتير في بعلبك، أو على مسرح الشاشات التلفزيونية اللبنانية، في “كلام الناس”، أو “صار الوقت”. أو “طار الوقت”، وتشتبك الأيدي وتتعالى كالعصي، في ساحة من ساحات القرى اللبنانية. وتظل قصة المحدلة التي سقطت على قبضاي الحارة، تتناقلها الشفاه، مسار سنة كاملة، على عجلات الترام.
على وقع ترام مونبلييه الرجراج، تتعالى الأصوات. وتتعالى القهقهات. وتتعالى الثرثرات، بين الأهل والأصحاب والأصدقاء. كل يثرثر على خاطره بدون حذر. وبدون إنتباه لإزعاج الآخرين، ما دام الترام يغمر الجميع برجرجة قوية، تخفق لها القلوب الملتاعة الوجلى، وتقع في النفوس، موقع العذوبة التي تنسي الهموم، ولو كنت خارجا للتو من تحت غارة معادية على الضاحية.
ترى عجوزين على مقعد واحد، وكأنهما بدآا حياتهما الساعة. يتمايلان كما الشجيرات في سور حديقة البلدية، بجذوعها الغليظة، وبأغصانها المتمايلة مع النسيمات في الصباح. تأخذهما حمية الحياة، ويتراخيان على المقاعد، وكأنهما في أول الحنين ذات مساء.
ترى عروسان في أول الدرب، مثل زوجين من الحمام الزاجل. يوقعان الحب على رقصة الترام. ويبعثان الرسائل على عجل، حين يشعران بإقتراب رجرجة المقطورة، أو حين يتنفسان الصعداء، بعد مغادرة مفتش التكتات في رجرجة القاطرة. ينسيان أغنيتهما التي يهمسان بها، بصوت عال. كأنهما في حفل، أمام ساعة العبد في وسط بيروت، وخلفهما قباب مجلس الشعب حيث ينفث ثرثراته.وحيث تقيل شجيراته المحروسة، بعيني السالكين إليه، منذ أقدم إنتخابات قبل جلاء الفرنسيين.
كنت أستمتع برجرجة الترام، وأنا أنظر من الشبابيك، إلى الشوارع الضيقة النظيفة، كيف تلتقي فيها عربات الترام، فتنزاح الأولى للأخرى كما في نص أدبي، فتبدو خطوط السكة الحديدية، وكأنها مرسومة بريشة فنان تتلمذ في المدرسة التكعيبية، التي لا يفهم خطوطها، إلا أستاذ جامعي قديم. لا صلة له بالفنون التشكيلية.
يمضي الصاعد إلى عربة ترام موبلييه. وحين تقلع به من المحطة، تأخذ إرتجاجاتها، بكل همومه. بكل شجونه. تتساقط عن كتفيه ثلة ثلة، كما شجيرة زيتون، تهتز تحت قضبان طويلة، أو تحت عنف آلة كهربائية حديثة. تساقط الحبات مثل الحصى من القلب، بحمى الإندفاع من شدة الهز والنهز.
رجرجة ترام مونبلييه، مثل سرير برلنغتون. كنت أنسى نفسي فيه مهما كنت مغتما. فلا شخير ولا نخير بجانبي. ولا أعرف إلا الشروق يطل علي، من وراء الشفق، مثل نسيج من مشاعل الذهب. ها هي فوانيس مونبلييه، تضيء لي جميع تخيلاتي، وأنا أترجرج في عربات الترام. أشعر كلما عدت للصعود إليها، أن جميع الفوانيس، على حوافي الطريق، من كوميدي، إلى أيغيلنغ، تشرق عادة ، كما في برلنغتون، من جهة القلب.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
مع شكري للعزيز قصي إلا أني كنت افضل استعمال تعبير المتمايل على تعبير الرجراج.
هناك بعض اسماء المناطق تغير ربما بسبب ترجمتها أو الكاتب لم يحفظ هذه الأسماء جيدا
اخيرا المغاربة الموجودين في مونبلييه أو غيرها هم مهاجرون على عكس الجزائريين الذي أتى قسم منهم مع مع الفرنسيين بعد انسحاب فرنسا من الجزائر