حرب الأناقة
لم تهدأ الحرب بعد مؤتمر الطائف. تحولت إلى أشكال أخرى. إبتدع اللبنانيون نوعا من الحرب، لا يعرف لها مثيل في جميع بلدان العالم. ولم يلتمس شكلها، في تاريخ الحروب كلها. يقف الزعيم السياسي، وما أكثر أمثاله هذة الأيام، بكامل أناقته. وبكامل شياكته. يقف إلى المرآة لساعات، مثل الحسناء التي تغري نفسها بنفسها. فيرتب هندامه، ويختار أثوابه. يخرج عدة نماذج منها. يستشير أهل بيته، فيما يليق بإرتدائه، وهو يطل على المنبر، أمام العدسات و الكميرات، أو في الإستديو، أمام الشاشة، ليشن حربا إعلامية ضروسا على المنافسين. على الأخصام. يكيل لهم التهم من كل الأنواع. أقلها سرقة المال العام. وهدره بالملايين. في عز حاجة الدولة إليه. يصعقهم برواياته وبأخباره، حتى ليكاد يجعلهم يرتجفون منه. حتى ليكاد يجعلهم ممن غلب عليهم الأمر، فلا يستطيعون دفعه، وهو بمثل هذة الكياسة والشياكة والأناقة. وهو بمثل هذة الثياب.
رداؤه في غاية الأناقة والسلاسة. أما شأنه، فهو شأن لسانه الذي لا يقهر. فهما ضدان: والضد يظهر حسنه الضد.
إشتعلت الحرب الأهلية، طيلة خمسة عشر عاما. ثم كان مؤتمر الطائف فأخمدها قبل ان تؤدي مهمتها وتقضي على لبنان. غير أنه سرعان ما قاد حربا أخرى، وهو يقف إلى المنابر وإلى الشاشات، يذرب لسانه بالبيان وبالبلاغة وبالفصاحة. ويكيل الشتائم، على اليمين وعلى الشمال، حتى ليكاد يصيب الجميع. حتى ليكاد هو نفسه، يبتل بها.
البذلة الكحلية، بدل بذلة الميدان. وربطة العنق، بدل الشال والكوفية. والمكياج الذي يمسح حسنه. بدل الوجه المعفر بالغبار، والجبين الذي تتطاير منه الحصوات. والحذاء الأسود اللماع، بدل البوط العسكري. والزنار الأنيق المستورد من أشهر الماركات الجلدية، بدل نطاق الأمشاط، والجعب المليئة بالرصاص و بالرمانات اليدوية. والمسدس الذي يتدلى: لعل له خصما لعل.
لم يتخل اللبنانيون عن الحرب التي وضعت أوزارها. بل تراهم يدخلونها اليوم، من الباب العريض. من باب حرب الأناقة: الزي الأنيق، بدل الكاكي. واللسان بدل السنان. يدخلون إلى جميع البيوت، من الشاشات الصغيرة، ويضرمون النار فيها. فترى البيت يشتعل بمن فيه، وكأنه أصيب بصاروخ، أو بقذيفة حارقة.
حرب الشياكة والأناقة، المسحوبة على أربعة دبابيس، نراها اليوم تستدرج الناس إلى أوارها. إلى لظاها. يخرجون بالألسنة الذربة، ويديرون بها معركة، تترحم فيها على الحرب الأهلية. تقول في نفسك: إنها كانت أشرف من حرب الأناقة.
يجندون الكتبة وأصحاب التقارير، وجميع المتبصصين في الدوائر. ويأتون بالشهادات السوداء. يبيضون بها التاريخ الأسود في المعاملات. ولا ينتبهون إلى الفتنة. ولا إلى آثارها السلبية السيئة.
فجأة تتحول الشاشات، إلى جبهات. فجأة تتحول الشاشات إلى راجمات. تجد النيران تدك الأرض دكا. تلهب الصقع والقفر والبلقع. وأما الرجل الأنيق، فهو ينام على نعماء تاريخه، ويتوسد أرق وأغلى وسادة. ولا شأن له، إذا ما سرت الفتنة بين الناس، وأكلت الحرب الرجال. وصار الغدر بأبنائها.
نقول لرجال المحاور المالية، إذهبوا إلى القضاء. إلى المحاكم. فحرب الأناقة التي تتعالون بها، ليست أقل نذالة من الحرب الأهلية. كفوا عن الإستهتار بعقول الناس. “فتاريخكم كله فتنة. وأيامنا كلها كربلاء”. (نزار قباني- بتصرف). وربما كان “بعض الشر أهون من بعض”. وأما عن الأموال التي نهبت، بهذة الطريقة أو تلك، فلا تنظفها الشاشات. ولا تبيضها المنابر والمماحكات. وإنما هي تحتاج إلى عدالة، وإجراءات. وقضاء نزيه، يحكم في جميع المعاملات.
حرب الأناقة، شأنها شأن الحرب الأهلية، بل لعلها أشد وأدهى وأوقع في صفوف الناس. فليرأف زعماء الشاشات بنا. ويمنحوننا فرصة لراحة البال في هذة الأيام التي تتغول علينا. فصرنا إلى طلب الحياة، أحوج منا إلى البلاء الذي إبتلانا. ألا نتذكر أن مؤتمر الطائف، قد إحتاج إلى خمسة عشر عاما، حتى رأفوا بنا. فعذرا، نحن نحتاج إلى كلمة سواء، وليس إلى الفتنة بيننا.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين