إهدار الفرص
ساحر لبنان، بصورته الماضية. تأمل شاطئه شمالا، من النهر الكبير الجنوبي، وحتى أخر صخرة تغتسل في البحر عند رأس الناقورة. تأمل قمم جباله العالية، من قمة القموعة وقلعة عروبة، حتى المكمل والقرنة السوداء وصنين والباروك وجبل نيحا و عامل. تأمل ذلك السيد الذي إسمه سهل البقاع، يأخذ راحته متمددا بطول لبنان. وعلى جنبيه سلسلتان من الذهب الخالص، واحدة إسمها سلسلة جبال لبنان الغربية. وواحدة إسمها سلسلة جبال لبنان الشرقية. تخيل معي الأنهار التي تنبجس من كهوفه الدهرية. تتلوى بين وديانه المتآخية. تنقطع بين الأرض والسماء، وتعيد على الأسماع أراجيز كل أنواع الطيور، وكل أناشيدها. تعال معي إلى سهوله الساحلية، في عكار وفي جبيل وفي بيروت وفي الشويفات، وفي صيدا وصور. قم بنا إلى مدنه وقراه الرائعة. وإنظر إليها من فوق ومن تحت. حيث النسور في السماء، وحيث الأجداد والأولاد والأحفاد، على الأرض.
ما هذة القطعة من الجنان، زحلت عن جنة الخلد. ما زحلة وبعلبك وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا والنبطية وصور. ما مسمى لبنان. أراه من شجر اللبان، أم من اللبن والعسل. أم إنشق عن مثاله الجمال، وإرتفع جدارية خارقة، برتها وحفرتها يد الخالق، وثبتتها بمسامير من الصخر. وعلقتها أيقونة البلدان على صدر المتوسط. ووشحت لها عقدا من زمرد البحر، حبيباته: قبرص ورودس ومالطا وقرطاج.
ما أضاع أجدادنا دهرهم سدى. كانوا ينحتون الصخر. كانوا يشقون أثلام الجلول. كانوا يصففون الكروم. وكانت أياديهم الخيرة، تبني معامل الحرير ومعامل الصابون. ومعامل السكر. ومعاصر الزيت والعسل والدبس.
بنوا قلاعهم في رؤوس الجبال. وبنوا الحصون على أبواب المدن. وسوروها بزنودهم. بعدما أشادوا المدارس والجامعات والأكاديميات، وصاروا أساتذة عظاما لجميع العلوم والآداب والفنون. ولا تزال المسارح والملاعب خالدة على أرضهم. تتكئ عليها عماراتهم مثل النجوم، في القرى وفي المدن.
كانت معاهدهم، أولى المعاهد على إمتداد الشرق. فهلا سألت عن معاهدهم التي بنوها في بلاد الغرب.
ما قصر الأجداد في تخليد برهتهم. ولا بخلوا على لبنان، بأدنى مسكة من قلم، أو بأقل نبض من قلب. و من روح ومن جرح.
تراهم وقد إندفعوا في شق الدروب، وفي بناء القناطر والجسور، وفي تعبيد الطرق. وفي مد السكك. كانوا بحق، عمالقة الوقت في زمانهم. ما بخلوا على لبنان ولا على الأبناء و الأحفاد بأي جهد.
أراني مندفعا بالتفصيل والسرد. ذاك لأنني أشد على جرح آذى البلاد منذ أن نال لبنان إستقلاله. طبقة من الحكام توارثوا السطوة على الناس. ونهبوا خيراتنا. جعلوها في صناديقهم. وجعلوا كرامتنا في الأرض. أهدروا الفرص التي كانت طوع بنانهم، وجعلوها في خدمة خزائنهم، لا في خدمة بلادهم. أداروا الصراع بينهم، ولم يحسنوا الحكم. جعلوا البلاد تتقلب على نار الفتن المتوارثة. فشبت النيران على الروابي، وأحرقت الوطن.
إهدار الفرص، كان ديدنهم. فما أتاحوا للشعب أن يأخذ نفسا واحدا منذ ثلاثة أرباع القرن. دمروا كل ما وصلت أيديهم إليه. فلا مرافئ ولا فنادق ولا طرقات، ولا زفت. ولا مطار، ينزل فيه القادمون إليه، ولا المغادرون. بل بقايا حطام، لمطار كان درة مطارات الشرق في زمانه. تماما كما كانت إذاعته و شاشته، أجمل وأهم المباني، يقصدها المتدربون، من أقصى الدنيا، للتسجيل في المحطات، ولأخذ اللقطات. ولجني العلم والمال والربح الحلال. هذا هو شأن لبنان: مسرحا وأذاعة وإستديو وتلفزيونا.
سادتنا، نبغوا في إهدار الفرص. وفي إهدار المال العام. فحين وضعت الحرب الأهلية أوزارها، لم نعرف كيف ندير شأننا بعد الحرب. بددنا الأموال تبديدا. أنفقنا على المشاريع الوهمية: البلدية والقروية، كل ما وصل إلى أيدينا. وضاع المال وضاع الوقت. وضاعت البلاد. وعادت الحرب إلينا من الباب العريض.
كل يوم نجلد أنفسنا بخطب الأسياد المجربين. الذين جروا الخراب إلى البلاد وجعلوا الأعداء على الأبواب. فأين إرث الأجداد فينا. أين أتعابهم علينا. أين أياديهم، في أرضنا. كلها ذهبت سدى. لأننا كنا سادة إهدار الفرص، التي وافتنا. ففاتتنا ولم نف بها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.