التحدث عن الماضي
حين يصير الإنسان أصغر من الحاضر. وأصغر من أن يكون له حضوره في المستقبل. حين يصير الإنسان ضئيلا إلى هذا الحد، يلجأ إلى الماضي. يستعيد ذاكرته. يستحثها، على أن تأتي له بالصور الجميلة. ينتقي من صور الماضي ما يشفي نفسه من برحائها مع الحاضر والمستقبل. يهرب من عتمة يومه، إلى شمس الماضي. يرى نفسه في مرآتها. هناك، حيث الرسوم التي تزينها له المخيلة. وحيث الدرس المحفوظ عن ظهر قلب. وحيث الروايات والأخبار المصنوعة بعناية تامة… للتشويق. يستعذب الحديث عنها، لأنها من عذوبة المتخيل. من عذوبة الخيال. من عذوبة المخيلة.
تراه ينغمس في الحديث عن الماضي، حتى أذنيه. يغرق في لجته البعيدة. يخرج منها الصور الغرقى. يزينها بالروايات المستحدثة. تلك التي تناسب مزاجه. وتناسب في الوقت نفسه مزاج السامع. مزاج صاحبه. فإذا ما وجد ملالا أو إشمئزازا منه، لجأ إلى تعديل روايته، وفقا للأمزجة المعدلة.
وعادة ما تكون القراءة في كتاب الماضي، قراءة إنتقائية. نختار منها ما يعجبنا ونهمل رواية ما لا يعجبنا. نكثر من الحديث عن بطولات الماضي. وعن صنائع الماضي. وعن الخوارق التي نراها لصيقة بأجدادنا. نعملق الصورة حتى نجعلها تليق بنا. ولو كنا نكذب على أنفسنا. فنحن المتفوقون في الماضي. ونحن الفاتحون الأوائل. والمخترعون والمؤدبون. نتحدث عن الماضي، كما نشتهي أن يكون. وكما نشتهي أن نكون. ننقيه من العيوب، تماما كما ننقي الثوب الأبيض من الدنس. ونتعامى عن رؤية السقطات. نتعامى عن رؤية المشوهات. ونتغافل عن سرد ما وقع لنا من الأذى. حتى يظل ماضينا، في غاية النقاء والبهاء والجمال.
الأمس عندنا، هو المفضليات. وهو المختارات والمنتقيات. وهو أشعار الحماسة. كأن صفحته قطعة من الشمس الطاهرة المنقاة. كأنها قطعة من الشمس المنتقاة.
نحن أذا، غرقى كتب التاريخ. وروايات المؤرخين. ننصرف بالكلية، لقراءة كتب السير حتى نجمل برهتنا. ننكب عليها لنصنع فيها أمجادنا. ونصنع فيها بطولاتنا. ونصنع فيها جميع صنائعنا. بعد أن عجزنا عن صناعة يومنا. وبعد أن تقهقرنا عن تسور مستقبلنا ومستقبل أجيالنا.
نرى الفشل يحيق بنا من كل جانب. ونرى منا نفوسنا، أضعف مما تتحمل عبء أجسامنا. تتآكلنا الأمراض الفردية و الأسرية والإجتماعية والوطنية. فلا نستطيع أن ننجح في أي إمتحان يومي لنا. ولا فيما يؤهلنا لريادة مستقبلنا. فنلجأ للتحدث عن الماضي، حتى ننقذ أنفسنا من عي الحاضر وعماء المستقبل.
شرط التحدث عن الماضي، العظة التي فيه. لا السرديات التشويقية المبالغ فيها، إرضاء للنفس، وتعويضا لها عن خيباتها. نحفر في الماضي عن اللقى. عن معناها. عن الحكمة التي فيها. عن قوة الصنعة. وعن دورها في صناعة حياة مشرفة. نريد أن نصنع أنفسنا. أن نصنع حياتنا. أن نصنع مستقبلنا. نريد أن تكون كل حاجاتنا، من صنائعنا، لا نستعيرها إستعارة. ولا أن نشتريها بأموالنا.
التحدث عن الماضي، شرطه عدم الغرق فيه حتى الأذنين. عدم الإغراق فيه حتى الأخمصين. وإلا يصبح موتا لنا. وإلا أصبح موتنا. نرى فيه صور موتانا. دون أن نرى فيها قوة سواعدهم. وحسن ديباجتهم. وزخم عقولهم الصانعة والمبدعة.
أخشى ما نخشاه، أن يكون التحدث عن الماضي، للهروب من حديث الحاضر وخذلانه لنا. فبئس الرجل الأعمى عن واقعه. الأعمى عن حلمه ومرتجاه. والذي يظل دهره آخذا في التحدث عن الماضي والإستنقاع فيه حتى أذنيه، وكانه في معمل الإتكال والإتكالية. وكأنه في بركة المتوكل!.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين