حضن الريف
الدعوة إلى الريف، وحدها من بين سائر الدعوات، تلبيها بإنشراح كلي. لا تتردد ولو للحظة واحدة في الرحلة إليه، والنزول في ربوعه، لأيام وأسابيع، وربما لأشهر الصيف. متى جئته تجده في إنتظارك الجنة. حيث النهر يغسل وجهك كل صباح. وحيث الشمس، تضيء لك فوانيسها، بين أشجار الدلب والعفص والبلوط والسنديان، وعرائس الوزال. وحيث الأنسام كلها، تعيد على مسامعك طيلة النهار، أناشيد الطير. من الحسون، حتى الهدهد والبلبل، وهديل الحمام واليمام.
هناك في حضن الجبل لا تجالس إلا كبار القوم. رؤوس لا تهزها العواصف والأنواء، لأنها من صخر. هناك في حضن الوادي، تجري بين يديك النبعة المترقرقة على الحصوات، وكأنها من لجين. وترى شجيرات الدفلى والصفصاف والزيزفون، تخيم عليك. ترش على قدميك عطرها. ترحب بك كعادتها، لدى قدوم الزائرين. تتراقص أمام ناظريك، كفرق الغناء والدبكة. ترافقك، طيلة مشوارك في الوادي. تهامسك حينا. وأحيانا تضاحكك و تضحك لك.
ترى رؤوس الروابي، بعيد العصر، تتدثر في حضن غيمة. تسافر معها. وربما طال سفرها، غير أنها لا ريب راجعة أليك.
الطبيعة لا تخون أبناءها. لا تخون أحباءها. هذا أول الدرس. هذا آخر الدرس. فمن شاء حفظ دروس الطبيعة، واغتنى بها: ثقافة وأدبا وعلما.كتاب الطبيعة منذ أول الدهر، ينتقل بالمجان من يد إلى يد. ينتقل هبة من قوم إلى قوم. تراه يؤدب جميع الناس بلا إستثناء ، ولا يكرر الدرس.
اللوحة بريشة الفنانة التشكيلية رجاء نيقولاس ( أكليريك على كانفاس قياس 60 × 70 )
ما زرت الريف، إلا وتمنيت أن أجلس في حضنه صيفا، أو بعض صيف. تراني وقد. نشرت الحقول والبساتين وجميع كروم العنب والزيتون واللوز على كتفي. أتنكب الرامة التي تفيء إليها الأطيار. تؤاخيني سنديانة دهرية. فأخرج إليها، وقد توكأت على سروة، وسرت مزهوا نفسي بنفسي، ولو لميل أو ميلين.
لا ينبت الريف من الرجال إلا العماليق. يصل إليه الرجال البسطاء الخاشعون، بسياراتهم الفارهة. فإذا ما وقعت أقدامهم على يديه، يضألون يضألون حتى يصيروا أقزاما. يأخذهم الريف بحضنه. يسلم عليهم. ولا يلبثوا أن يطير بهم على جناحه، بين السماء والأرض، مثل الرجال العماليق الدهريين. يدفعون الكواكب والنجوم و الغيوم بالأكف.
تعالوا معي، إلى حضن الريف ساعة. تعالوا معي إلى ظل غيمة تمشي على الأرض. تروا ظلها يرافقكم. يؤانسكم. يحادثكم. يشرح لكم معنى الظلال في كتاب الأرض.
لماذا تؤوب جميع الحجارة إلى مخادعها حين تؤوب الشمس. لماذا تخلد إلى راحتها معها في برهة القيل والنوم. لماذا تختفي. تغيب في سكون الليل.
أمس، سرت في حضن الريف، مثل زورق في البحر. كنت أجدف بناظري، ذات اليمين وذات اليسار. وأحينا أحثو التراب في عيني. أشم في ضوعه، رائحة أجدادي. أعد الحصى القلبي. وأنتظر هبوب الخيل. كان الخيال يطوح بي، مثل غابة تضربها الريح على حين غرة. تعدو الريح مسرعة. وتبقى الغابة في عيني.
لا تسألوني عن ساعة في حضن الريف. لا تسألوني عن غصن طار من صدري، وأزهر فجأة في غابة اللزاب، فوق عيون أرغش.
عدت عنها، حين غادرت الشمس أيكتها. وكنت طيلة يومي في ظلها، أكتال الريح وأتشمم عطر اللزاب ومنديل الشمس. فترمقني من بعيد عيون أرغش. تماما كما ترمق النجوم مسام بدن شاسع بطول الأرض.
حضن الريف أعظم لذة على الأرض!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.