بازار إسطنبول
من يزور إسطنبول ولا يزور بازاراتها أولا بأول. ويعجب للبضائع التي صففت. وللبضائع التي نضضت. ولأنواع العطور والبذور والأفاوه. ولأسواق الأسماك واللحوم. ولأسواق الطير. ولأسواق البطيخ. كيف لا يطلب أسواق البازركان ويقف أمام ملابس الجوخ والصوف والجلود والكتان والكشمير والحرير.
من يزور إسطنبول، ولا يزور بازار محمد علي. والبازار المصري. وبازار السليمانية وبازار الحميدية. من يزور إسطنبول، ولا يشتهي أن يزور شارع الإستقلال ويمشي من أوروبا إلى آسيا في دقائق معدودة. يتوقف قليلا فوق الجسر الواصل بين الشرق والغرب يقرأ كفيهما. ويتأمل الدردنيل. والبوسفور. والبحر الأسود. وبحر مرمرة. ويمرر أصابعه على تجاعيد الأمواج المختلطة. ويرسل أبصاره وراء التلال والجبال والوديان يصطاد الغيوم البيضاء. ثم يعرج على خزانات الماء الرومانية، وينظر في الوجوه المتلألئة تحت الماء، في أسفل العمدان الضخمة.
من يزور إسطنبول، ولا يقف هناك على قبور الصحابة والتابعين. وعلى الكنائس والكاتدرائيات. وعلى آيا صوفيا، وجامع السلطان أحمد. ولا يزور المتاحف. ولا ينحني أمام الأقواس و اللوحات و الأيقونات العجائبية.
من يزور إسطنبول، ولا يقلب الضفتين على الأرض. ولا يقلب صفحات التاريخ والكتب. يقرؤها طردا وعكسا. من يزور إسطنبول، ولا يزور تلة بورصة. ولا يصعد إلى غابات الصنوبر في أعاليها. ويقف بكل رهبة، أمام تماثيل بني عثمان على خيولهم المطهمة. ويقف مندهشا، أمام تمثال مصطفى أتاتورك، الذي أنقذ الدولة.
فهذة كلها إسطنبول بكل مشاهدها وبكل تقاليدها. وبكل رجالها، وبكل تاريخها من الحروب ومن المنجزات: من نافذة الفندق حيث كنا ننزل، حتى آخر غور من أغوارها. وحتى آخر سهب من سهوبها.
كنت أتأمل ذلك، في آخر رحلة إليها. وكنت أقول في نفسي: ما نحن إلا “تركة عثمانية” مهملة. فالبازارات عندنا قائمة في سوق الرئاسة. وفي سوق الحكومة. وفي سوق المعارضة. بل في سوق المعارضات. وفي سوق النيابات و الوزارات والإدارات. في سوق الدفاع عن الحدود لحفظ الأرض المتصدعة والممتلكات المتهالكة والمتساقطة. ما نحن إلا بازار عثماني. ما نحن إلا بازار تركي. لا تزال مشاهده تملأ العينين: ثياب عثمانية معلقة على قامات وزراء ونواب أمة وحكام. يدخلون بالنياشين. ويخرجون بالنياشين. صفر الوجوه وصفر اليدين. والشعب يتضور جوعا. يشتهي قطرة الماء. يشتهي شعلة نائسة من ضوء الكهرباء.
كلما عادت بي الذكرى، إلى تلك الرحلة الأثيرة والأخيرة، عدت إلى نفسي لأردد وأقول: ما نحن إلا “تركة عثمانية” مهملة: مقاطعات وإيالات. وبكوات وأغوات. وخيول مطهمة. وباش بزق. وأبواق. وشعب يشتهي الأمن والرغيف.
حقيقة: لماذا تقدمت إسطنبول وتأخرت صيدا و طرابلس و بيروت. لماذا صرنا في آخر قائمة المدن وفي آخر قائمة الرجال. لماذا قويت العملة التركية، وصارت عملتنا من أتفه العملات.
لماذ إستطاعت تركيا، أن تحفظ شعبها. وأن تصون منشآتها. وأن تنسج العلاقات الطيبة مع الشرق والغرب، ولم تتهور وتقود شعبها إلى المهالك. إلى الهلاك.
لماذا إستطاعت تركيا أن تخاطب العالم بلسان الأقوياء، وتحفظ الأمة التركية. تحفظ مصالحها، ومصالح شعبها وناسها، وتملأ الأسواق.
لماذا صارت بضائعها مصنفة من الدرجة الأولى جودة: منسوجاتها وزراعاتها ومصنوعاتها. ولماذا صرنا نحن، في أسفل الدرجات.
بازار إسطنبول، كلما ذكرته وتذكرته، أيقظني. إستيقظني. إستيقظ في داخلي جذوة الآلام: لماذا تساقطت قلاعنا. لماذا خربت حقولنا وكرومنا ومزارعنا. لماذا هدمت دورنا. لماذا هزمنا شر هزيمة، من حقبة إلى حقبة. ومن تاريخ إلى تاريخ. طيلة مائة عام. بعدما صرنا “تركة عثمانية”. لماذا تجمعت في سمائنا، جميع غيوم الدنيا. لماذا صرنا محاصرين بين النار والبارود.
لماذا هبت علينا كل عواصف العالم. لماذ رضينا أن نظل طيلة مائة عام أن نكون تركة عثمانية، والدول حولنا تنهض على قدم وساق في البنيان والعمران: تحدث إداراتها. تحافظ على قدراتها. تسهر على رعاية شعبها. تحفظ الحدود والحقوق. و تصون البلاد بسياج من الحرية والديمقراطية. وتعلي هذا السياج، في وجه المتطاولين عليها. في وجه السماسرة والمقاولين وتجار الخردة. وباعة الأسماك النافقة.
لماذا صارت بلادنا، دولة للمهربين وللشطار وللصوص. ولسماسرة العقارات. لماذا صار الجنوب خارج الدولة. ولماذا صارت الحدود كلها، للخارجين على القانون، وللذين يستدرجون الإرهاب والعدوان إلى بيوتنا.
صار السؤال اليوم، عن حرمة البيوت عن حفظ البيوت. عن سلامة الأهالي في دورهم وفي بيوتهم، من المحرمات. صرنا حقا، تركة عثمانية بالية. لا نستطيع أن نجري إنتخابات للمخاتير والبلديات. ولا نستطيع أن نعين مأمور أحراش. ولا نستطيع أن نقر الفائزين في أي نوع من أنواع الإدارات. ونحن نخشى أن ينسحب ذلك، على إمتحانات الدخول. و على إمتحانات التخرج، أو على إمتحانات الشهادة المهنية والشهادة الثانوية…
بازار إسطنبول، فيه كل معاني المدينة المكتملة: بلدية وإرادة شعبية، وسلطات رسمية وشبه رسمية. وأسواق تسيل بالناس ليلا ونهارا. وأمن مستتب وحرية. ترى الدنيا كلها هناك: ناس من شتى أرجاء الأرض. وجسور تصل بين الشرق والغرب. ودولة يقظة. دولة مستيقظة. فلماذا تقدمت تركيا، وصرنا تركة عثمانية مهملة. صرنا منديلا لأصحاب الأنوف الطامحة لبيع التركة البالية في سوق المزادات العلنية ؟…
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.