روح الطبيعة
من قال إن الطبيعة، هي فقط في الروابي. في السواقي. في الوديان في الوهاد. في السهول وفي الجبال.
من قال: إن الطبيعة هي في المحيطات وقيعانها. في البحار وفي الأنهار. في الغابات. وفي الأزهار.
من قال: إن الطبيعة تسكن المغاور والكهوف. وتستكين في البوادي وتأنس في الصحارى. وفوق الكثبان. وفي حبات الرمال.
من قال إن الطبيعة، طير وحوت و قفير من النحل وفراشات. وحية تسعى وساقية تتلوى. وصفصافة، مثل مئذنة الملوية، تتلوى وتتأوه على صوت المؤذن كل صباح وكل مساء.
روح الطبيعة، كما عرفتها، في تجربة الخمسين عاما التي مضت، هي سيدة في البيت. هناك حيث ينبت العشب و الزهر بين كفين: على شرفة. من نافذة. في زاوية. وفوق شرشف طاولة. وأمام عتبة من عتبات القلب، عتبة باب تسلقت إليه عريشة مرتعشة..
الطبيعة هنا في البيت، بين المناديل، تضوع، فتعبق الصالة، وتفوح الأراك شذى. وتتراقص الستائر للشمس. وتعربش الحشائش على الجدران. ويتنفس الصبح من رئتين ندى.
الطبيعة هنا في صحن الدار، إبريق من الماء. وجرة تسند حصوة. وركوة من القهوة. ومزهرية بلون السماء. وقارورة عطر تفوح كلما مستها يد. وشميم شباك، يفوح منه الورد.
نعم إكتشفت أخيرا، بعد خمسين عاما، حين غابت سيدة القلب والبيت، عن الخوان الأبيض، كيف خوى. كيف إنكمش. كيف يستنشق الغبار. طارت أنفاسه منه. وصار لأول مرة ينام على حزن. عرفت لأول مرة، كيف تعطس الفناجين والصحون والجفنات، وتتأوه الطاولة.
أتحدث هاهنا، كيف يفقد البيت روح الطبيعة، في غياب سيدته. عرفت لأول مرة أن للطبيعة الصامتة، روحا تسكن الجدران. تسكن خزانة الملابس. تسكن جوارير المطبخ. تسكن الشعلة، في المصباح وتحت القدر. وتضوئ رفوف الطعام المبرد في ثلاجة الوقت.
روح الطبيعة، تغيب عن البيت، بغياب سيدة البيت. ويا له من هول يقع عليه، إذا ما طال الغياب، لأكثر من سويعات، فما بالكم به، إذا ما تداوله الوقت.
لا أقول بعد اليوم، إن الطبيعة هي الأجمل في الحياة، بعد ما ذقت روح الطبيعة، معناها، في البيت. هنا تتفتح السجاجيد. هنا تورق المزهريات. هنا تتنفس الأرائك والمقاعد. وتتراقص حبال الغسيل، عند الشروق مع الصباح معطرة برائحة الليمون والبنفسج. ما بال الشبابيك أبطلت عادتها، فلم تعد تصفق للشمس. ولم تعد تغلق الليل على قلبها. تعبئ النوم في عبها، وتدعو لسيدة البيت.
أمس كانت الشاشة مضاءة. شهقت علي فجأة، حين وجدتني أسند رأسي. وأغرق كصنوبرة شاردة منحنية. بين الأريكة والوسادة. ما هذة الأكواز التي تتساقط من عينين، صاحت علي الثريا وهي عابسة. قلت: تعبس الثريا أحيان، حين تفتقد سيدة البيت، وتكفهر القناديل في الزوايا. ويخف ضوؤها. ويحترق البن على النار. يشوى مثل قلب تيبس، حين غابت سيدة البيت عن دارها.
لا تساوي الطبيعة كلها، قطرة واحدة من عطرها. فما بالكم حين يكون الأمر خليط روحين: وغابت عن الوسادة روحها.
أقول لمن لا يعرف بعد، أن للطبيعة روحا تسكن في البيت، تعالى إلي، تجد يبسا شديدا على شفتي. على أرغفة الخبز. تجد الثلاجة عابسة. تعالى لترى معي قعر الأواني، مثل الجفان المكتحلة. ترى الملاعق المشتبكة. ترى الزجاجات الباكية. غابت الروح عنها، فصارت إلى اليباس، مثل حديقة مهجورة، تندى عليها الغيوم وتهجرها الحساسين. وتبكيها الساقية.
يا للهول، حين يفتقد المنزل لسيدة البيت، يطول غيابها، لأكثر من سويعات. فكيف إذا صار إيابها مثل الصدقة الجارية!.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.