د. جوزاف الجميّل يقرأ ” يوم قررتُ أن أطير ” للشاعرة ميراي شحاده :
طائر النور ورعشة المرآة
“يوم قرّرت أن أطير ” عنوان ديوان وقصيدة. ولكن هل صحيح أن العنوان يختصر القصيدة والديوان؟
وهل صحيح أن الطيران في عالم الأدب قرار؟
قرّرت الطفلة الكبيرة أن تطير في عالم الشعر. والشعر فضاء لا حدود له، ولا آفاق.
الشعر جنون مطبق، وسفر مطلق، إلى عالم مجهول، حدوده الظن والفن لا بلوغ السن.
الشعر بيدر واسع فيه السنابل والقنابل، وفيه الأشواق والأشواك. فهل اختارت الشاعرة ميراي عبد الله شحادة الحداد حقول إلهامها، وأوراق هامها، كي تنطلق في فضائها المكلل بالورود والوعود؟
يبدأ العنوان بزمن مجهول، قوامه أربع وعشرون ساعة، من عمر الزمان. زمن نكرة يحيط بإنسانة غير نكرة. إنها ابنة العقاب المحلق، في سماء الشعر، الشاعر عبد الله شحادة. وقد طار هذا العقاب بعيدا، خارج حدود الذكريات والأحلام. طار إلى عالمين متوازيين هما عالم ما وراء الوجود، وعالم الخلود السعبد.
وقررت الشاعرة أن تطير.
وطيران ميراي مزدوج الغايات والآيات. تريد أن تطير لتثبت أن الفتاة سر أبيها، وأن أجنحتها الزغبية قادرة على التحليق، إلى أفق بوالدها يليق.
والغاية الثانية من طيرانها هي الطيران باتجاه الذات، لتأكيد شخصيتها الأدبية، فلا تبقى تحت جناحي أب وصديق. فالطفلة التي استقبلها الأب بقصيدة، أصبحت هي القصيدة، وهي اللحن والوتر.
قرار الطيران فعل ماضوي أزلي، مرتبط بزمن غير محدد. أما الطيران فهو انطلاق مستقبلي النزعة، مفتوح على عالم الأمنيات والأحلام.
في الفعل الماضوي قررت كان الفاعل ضميرا متصلا بفعل إرادي. والاتصال موصول بشخصية الأب الحامل عمق الرغبة الدفينة في الأعماق.
وضمير الرفع المتصل التاء يحتمل غير تأويل، إذ يمكن للضمة أن تستحيل فتحة ويصبح الفاعل شخصا آخر، قد يكون الوالد. وممكن أن تتحول تاء الضمير إلى تاء التأنيث، فيصبح الفاعل مستترا تقديره هي. وال “هي” المقصودة ذات الشاعرة اللاواعية أهداف القرار.
ولكن، ما دامت التاء قد كللت بالضمة، وأصبحت تاء المتكلم التي تعود إلى الشاعرة، فهي، واقعيا، سيدة قرارها. وقد أصبح قرارها الطيران في حجب الغيب، يقودها إلى مستقبل تحاول فيه أن تستتر وراء الحرف، أن تختبئ خلف أبواب الليل. توقظ المرايا، في صندوق الليل. تختار أجملها، الغرفة المحرمة في قصص ألف ليلة وليلة
الشاعرة ميراي شحاده
ويولد في ديوان الشاعرة، خوافيها الزغبية، ألف قصيدة وقصيدة. قصائد توقظ في ذاتها الفتية قلق النجاح والإبداع. تخشى أن تنكسر مراياها، وفي المرايا صورة الأب لا انعكاس صورتها، وهي تحاول تقليد الأصل. ولعل انكسار المرايا أشد فتنة وتأثيرا من السجن والموت.
مرايا الشاعرة أشبه بصندوق باندورا. وحين ينفتح الصندوق تخرج شياطين الشر، والإلهام، في آن.
يوم قرّرت الشاعرة أن تطير تلألأت أنوار الخارج، وكشفت ظلال الماضي والذكريات. تعرّت الشاعرة من خوفها، واستسلمت لهواماتها والهيام.
يوم قرارها الطيران كان تجدّد الأكل من الشجرة المحرّمة، واستعادة ذكريات الطرد من الجنان، ذكريات الموت والشقاء؛ لأن الوالد كان حرّم عليها اقتراف “جريمة” الكتابة، والشعر، بشكل خاص. وحين غامرت بفتح صندوق الإلهام، مراياها المنكسرة، خرجت أعاصير قلقها الوجودي، خشية أن تحطّم المرآة الكبرى، في بحر الإبداع العميق.
بين العنوان القصيدة والديوان صورة في مرآة، بل صورة امرأة، طفلة كبيرة، تخربش على صفحات البوح رسالة وداع، بل جوع لقاء بمن أعلنت، عبر جمع شعره، أنها لم تكتب، وتطر، إلا لتلتقيه، حيث هو، في عالم الخلود.
وما الخلود إن لم يكن في الكلمة التي تجسدت رعشة قلب، وحلم صلب، وابتسامة بوح، في مرآة.
حاولت أن أجمع كلمات العنوان “يوم قررت أن أطير”، فأتت النتيجة 1217،أي 11، أي 2. وهذا الرقم يشير إلى ثنائية الفتاة وأبيها، أو أنها في مرتبة ثانية بعد الأب. كما أن رقم 2، في علم الأعداد، يشير إلى الأرض، في حين أن الرقم واحد هو سماوي.
في رقم واحد تفرّد ووحدانيّة،وحين التقى الرقمان وتكررا في رقم ١١, ظهرت شخصية جديدة تعطي قيمة مضافة إلى العدد الأول. وأصبح المجموع اثنين، ما يوحي كينونة جديدة من صفاتها الاعتراف بوجود الآخر، المتفرّد هو أيضا، في قاموس الحياة. والآخر هو الأنا، طائر صغير، نما زغبه وريش جناحيه، وأصبح قادرا على الطيران.
صديقتي ميراي، قرارك الطيران حلم طفولي يقودنا إلى نرجس الأسطورة، حين رأى وجهه على صفحة الماء، بل على صفحة مرآة الشعر. تكتشفين كحواء، بعد المعصية الأولى، أنك عارية كالحقيقة، فاختبأت خلف سطور القصائد، تناجين مرآتك والقلب، في ثنائية النور والظلال.
هنيئا لك طيرانك الأولى، تحمليننا فيه إلى أرض جديدة، وسماء جديدة، أرض المعرفة وسماء الإلهام. وأظن أن طائرك فضائيّ مائيّ، يجيد التحليق إلى أعالي السماء، والغوص إلى أعماق الماء، بحثا عن محارة حلمها القمر والسمر والوفاء.
د. جوزاف ياغي الجميل
د. جوزاف الجميّل