زمن الصمت
” على موج الوهم/ لا يطفو مركب ولا يرسو. ولا/ شده في العنق هواء./ رجع خفيف في وحدة القصب/ سبق الصمت بنوم../ هل من أحد رآه.
لن تسرج الصوت/ لن تكسر الفراغ/ فالفضاء عشب أسود/ حجارة علقها على روحي الإله!.”
من الصعب أن نفهم صمت الجبل. صمت الحجر. صمت الوادي. من الصعب أن نفهم صمت الحجرات. صمت جدرانها. صمت جيرانها. فالصمت لغة، زمنا، لا يذوقه إلا من رشف من دنانه، ثم غاب بين الأشجار السكرى، تشرح له متى تتكلم، ومتى يقع الصمت عليها. فالصمت له أوان وله آنية. يمكن أن تكون أجسادنا من آنيته حينا، ومن قيثارته حينا آخر. فهلا سمعنا رنين الصمت على الحجر. هلا سمعنا أنين الصمت في قيثارة الزمن.
“على ضحكي المتلاشي/ علقت نفسي ثوبا باليا/ جمعت كل أرواحي في وجهي/ أطل كالروح.. وجهي/ لم يعرفني أحد!.”
“مها بيرقدار. الصمت. مجلة شعر.”
حيث تفسح للصمت ذكرياته مع الناس. مع الطبيعة. مع الوجود. تسطرها صفحات صفحات. سورا سورا. أناجيل أناجيل. آيات آيات.
“وراء الريح والخط/ من هي؟/
- دنيا من لفظ أنيق/ ظل طيف/ ماء لا يعود؟”.
أيما عذوبة تذوب، حين يرين السكون، كما الليل البهيم. أو كما الليل في ضوء القمر. تسمع الحكايات بآذانك فلا تصدقها. تسمع الأناشيد تتتابع مثل الغصص. يمتلئ القلب بها. تذيب الروح على نارها، في يقظة السكون منا، ونحن نتابع محنة الكلام، في المحاريب الصامتة.
” الأوقات النضرة الغابرة/ ماثلة كملكات صامتات/ معا نرفع تاج القوة/ معا يوارينا السقوط/ أيدينا سحابة عابرة/ والروح… كالصدى حلقات!”.
مها بيرقدار الخال، عرفت كيف توقد الصمت شعلة في ديوانها، ثم تحملها إلى الأعالي الرانيات، تنتظر السهرة التالية. حين تغامزها النجوم وتواعدها، على القمم. على البيادر. في الوديان، وخلف درب القمر، يشق طريقه إلى كهف الروح، حيث يستريح البدن.
” أنت… في الكون ضيف رهيف/ لا تبك ظهرا/ جسدك برهة… ويطير!”.
ديوان الصمت، الكتاب الذي يلي الكتاب، تماما مثلما يلي القميص البدن. كيف تعلق الأسماع كلها، حين تلبس الصفصافة القميص، تلو القميص. ثم تنحني فوق نهر الزمان، تحكي لنا. تبكي. ثم تحكي. وتبكي ثم تحكي، فنجهش بالبكاء آهات آهات. ويكركر النهر. يشرح لنا سر الصفصافة الرانية.
“يدك خمسة أنهار/ لكل نهر ينبوع/ إمسح جبينك/ قبل المصب/ قبل سرير أخير!”.
في كتاب الصمت، تماما، كما في كتاب الحب، تنحني أبداننا، إصغاء لسر الصمت عند مها بيرقدار الخال، الشاعرة التي ترسمه لوحات لوحات، كأننا أمام الصرخة، التي أطلقها في يومه الفنان النرويجي إدفارت مونك.
” أنفاس قديمة./ لهاث خديعة تشبه الشباب/ أتجول بينها بلا عجب/ أتجول./ لأن الضجر وحيد على مائدتي/ وحيد حتى الضجر!”.
الصمت شعرا، ربما كان أعظم من الصمت لوحة. لأنه هاهنا، هو بمقياس صرخة مونك. جعلت الشاعرة مها بيرقدار الخال، الصمت يقع لنا، فنجمد لحالنا في الزمان وفي المكان. تماما كما فعل مونك في برهة الصرخة.
“وجهي المصقول سحابة رمل/ هل تصلي السماء كأرضة صامتة؟/ هل ينعش قحلها صراخ مديد؟/ هل من أحد في المحراب؟/هل من ملاك يصغي/ هل من ملاك؟.”
صمت ران على الآذان، على العيون. على القلوب. جعل كل ما حولنا يدخل في الطبيعة الصامتة. يسيل فوق السهوب وفوق الوهاد. يسيل في الدروب. يسيل على الجسوم، مثل الشمعة، تذوب وهي صامتة.
” أصبغ الهواء بيوتا/ على الزهد أقيس قامتي/ لا الزهد يحكي/ ولا الندى في جسدي ينام.”.
كنت أرى تلك الشمعة المدهشة، في عود مها بيرقدار الخال، وهي توقع ديوانها. كان الصمت كساء ملوكيا لها. إرتداها، وهي ببهجتها، لفرط ما سكب عليها من الشوق والوجد. من الموت والبرد. من الزمهرير الذي هز عطفيها دهرا، وما إتسع لها. كان قميص الزمهرير، يختنق، يضيق، كلما وجد الصمت واقفا على منكبيها. ينشرح للريح ويطلقها أجنحة أجنحة. موجات من الضوء، تسافر في الآماد ثم تؤوب إلى بابها.
” كل الكلام في الصدر مرصود. رهافتي لا ترتق ثقبا هنا../ جراحا هناك./ رحل طير/ وها أنا في نوم بعيد أغيب.”.
الشاعرة مها بيرقدار الخال
ديوان الصمت، دفتر اللحم الساخن. هلا وجدتم بين دفتيه لحما ساخنا. ترها تتقلب على جمر الماضي. على جمر الحاضر. على النار التي تشب لمقرورين. وتبيت على النار وحدها.
“الشمع يقضي باكرا. وكل الخطى الملتبسة/ صوت الربيع الخفي/ وورق الذاكرة يتفتت تحت القلب/ بعينيك نسمعه ثم./ تلوذ بليل فسيح.”
مؤنسة النار، مها بيرقدار الخال. وقدة من غضب. شعلة في بيرق. في لواء.
في سباق الصمت والبكاء والعويل، تقلبت على دهرها، كعشق الفراشات نيرانها. وما زالت أقوى على عناد إطفائها.
“للوحشة أشكو/ سوء الوقت بيننا/ الوقت جائر/ نحن فيه رمل يضيء/ حرق مطفأ وحيد/ خامد يئن للأبد.”.
نار إغريقية، مها بيرقدار الخال، في كل ديوانها. من أول العتبة، إلى باب المحراب، صمت يلوذ ببابها. فهلا نصنع من الصمت تاجا قداسويا لها. تزقو فيه النيران صدى لروحها. نسمع صيحتها: أغيثوني. أغيثوني. ولا نصغي لمعناها.
” تجمعني الآلهة في بئر ذنوبي./ ذنبي يقظة جمال لا ينتهي/ جمعوني في “الدحنون”/ وإجعلو “باخ” شفيعي/ ولا تنثروا حولي غير ما أقول../” العقل صحراء والقلب نداوة”.”.
مها بيرقدار الخال، قتيلة أم غريقة بحيرة الصمت في ديوانها.
“إنتهت السماء كما الارض/ وحده الشعر يتذكر/ قبل أن تنتعي الأرض والسماء! /دون خشية أو ندم/ بهدوء علينا الإنصراف.”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين