أمين نخلة كتابا
حبر على تبر
“ما زال والدي ماثلا أمام ناظري. وما زلت أراه في شيخوخته الهادئة وسيجارة “اليانجي” المذهبة لا تفارق شفتيه. كان يشكو من ألم في المرارة وقرحة في المعدة. إستمر يقرأ كتب الأصول ودواوين الشعر حتى آخر أيامه. كان يفرح إذا قرأ أدبا أو شعرا نضرا، فتنفرج أساريره على صفاء الذهن.”( سعيد أمين نخلة)
حسنا فعل الراحل الكبير ميشال خليل جحا، حين أنكب يجمع بعض إرث صنوه الأديب الراحل أمين نخلة. فمثل هذا العمل، لا يوفره لنا إلا الجهبذ. فما بالكم بالدكتور ميشال جحا، أخا قلم، يلقح أعواد الأدب برقعة من الصوغ والصياغة. بقلم مغمس بالحبر وبالتبر. ما بالكم بالأستاذ ميشال جحا، لا يتنكب إلا الغمام المحلق في الأعالي، يريد أن يجعله مطيرة الفؤاد والروح والقلب.
” أمين نخلة. مقالات له وعنه ومقابلات معه. جمع وتحقيق وتقديم الدكتور ميشال خليل جحا. نلسن-بيروت”.
في تقديمه للكتاب الموسوعي (534 ص.)، يعرض الدكتور جحا لأيام اللقاءات الأولى بأمين نخلة. تلك الأيام التي لها نكهة الماضي الجميل، ولا نقول الزمن الجميل. فشأونا الإضاءة على العذوبة في منابعها، لفظا ومعنى. شأونا الوقوف على كرامة الأدب، حيث أصحاب القامات الأدبية، كانوا يصوغون حلى الكرامات الأدبية. يدبجونها نثرا وشعرا، طاقات طاقات، بلا زلفى، على الرغم من معرفتهم مسبقا بفن الزلفى الأدبي، ولا نقول فن التزلف والإستعطاف والتملق والتكسب. فذلك كله، لم يكن في خاطر الكلمة التي كان يغرسها أمين نخلة في النفوس العطشى إلى الأدب الصرف، غير الممازج لها.
“( خلق الشاعر سمحا طربا…) وكذلك أمين تقي الدين. تلقى امينا فترى بهجا وجبينا مشرقا وعينين سوداوين واسعتين تتدفقان بريقا ورقة، وفما يضم بعضه بعضا ليلقي الترحيبة الحلوة!”
نستبين أدب أمين نخلة كدوحة باسقة، تستظلها الطير. كأجمة عاصية، في منقطع من الجبل. كواحة للإنقطاع والراحة، من خراب الروح، لدن تلوثها بالمحيط الآثم، وبالرهبوت الجاثم. فأدب أمين نخلة، فوق جميع الشبهات التي تلحق عادة بعالم الأدب.
” كان الشيخ إبراهيم المنذر، إذا تلقف كرة البحث في العربية، بين فرائد وجمل، بحرا لا ساحل له! فهو قد أحاط بشاذ ومقيس. ووقف على غرائب ونوادر، وغاص على دقائق وإستقصى أطرافا وجمع أشتاتا ما شاء الله له. ذلك إلى ذاكرة تحفظ للفور، وتحضر المحفوظ عند الإقتضاء. فإذا هو تلا عن لوح قلبه، فكأنما يستفرغ من وعاء، وإذا عرضت له المسألة، حضر الشاهد لساعته…”
لم يجعل أمين نخلة أدبه من نوع العكاكيز التي يتوكأ عليها من إحدودبوا، للدخول إلى عالم الأبواب العالية، لصناعة وظيفة. لصناعة كسب. لخطف لقب أو شهرة. حمته من ذلك كله، المحاماة. كان من أدب المحماة، ما يدفع عنه الغاليات. ما يدفع عنه المغالاة.
” لقد أحببت رياضا كما يحب الأخ أقرب أخوته إليه. بل كان حبي له أعمق جذورا، لأن ما شدني إليه لم يكن وشائج قربى ولا مصلحة ولا منفعة. أحببته لذاته. وكم كانت ذاته ساحرة.”
ما أحيلى تلك المرافعات التي تدفع بالشاعر والأديب، أن يتعالى عن الكسب. أن يأنف من التكسب والتزلف. حمته المحاماة، عن الدنو مما يساقط من الأدب. فما عرف أمين نخلة في حياته كلها، ملمس الأدب الذي يساقط على عباءات الأشخاص بأيديهم الطولى. و بأزمنتهم وبأوسمتهم. بالجاهات العظمى. ما تلطخت يد أمين نخلة طيلة دهره، بأدب الجاه. حامته محاماته عن أن تكون يده تحت مقرضها.
” وزع حياته بين السياسة والمحاماة والأدب الذي لا يرى فيه “لا يمين ولا يسار”، كما يقول في إحدى هذة المقابلات، حين قالت له نازك باسيلا إن البعض إتهمه بأنه يميني في أدبه. إنتفض وأجاب:” أستغرب أن يطلق هذا الوصف على أدبي، ما معنى هذا. احب أن أؤكد في هذا المجال أن لا يمين ولا يسار في الأدب هناك. كما أقول دائما عن الشعر. أدب ولا أدب. وليس هناك يمين ويسار”.
أمين نخلة الوجه الآخر لجبل الأرز. الوجه الآخر للعزيز. الوجه الآخر للجبين نسيج الغيم. تراه في كتاباته، في مؤلفاته، في لقاءاته… تراه في جميع ما كتب، وفي جميع ما كتب عنه: الحبر والتبر. بل حبرا على تبر.
يقول الأستاذ سليمان بختي، في كلمته التي صدرها على غلاف الكتاب: ” هذا موعد حب مع أمين نخلة( 1901-1976، امير الصناعتين والقامة النادرة في تاريخنا الأدبي، موعد يعقد في الذكرى الأربعين لرحيله. وفيه يجمع ويحقق ويقدم الدكتور ميشال خليل جحا، مقالات من تأليف أمين نخلة من خارج أعماله الكاملة، تنشر للمرة الأولى في كتاب. وثمة أيضا مقالات عنه في مرايا الذين عاصروه والأجيال التي تلت من شعراء وأدباء ونقاد. وفي الكتاب مقابلات وحوارات معه من رفعة الحنبلي وعصمت المنلا ونازك باسيلا، تجمع وتنشر في مثل اللقيا. هذا الكتاب له ومعه وعنه. فهل يقال مضى الأمين أو قضى؟
هنا أمين نخلة يدلنا إلى النبع والمصدر في إلحاح ميعاده… لم يزل مقيما في عذوبته ولطائفه ودقائقه في الأمس واليوم وغدا.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين