أومبيرتو إيكو مستطلعا
” ومع ذلك فأنا أزدهي بذلتي، وبما أنه حكم عليّ بمثل هذا الحظ، فأنا أكاد ألتذّ بنجاة مقيتة: إذ أنني، حسب اعتقادي، ومنذ أن خلقت البشرية، أول إنسان ينجو من الغرق فوق سفينة مهجورة”.
هذا ما كتبه روبارتو دي لاغريف، بصياغة البليغ المسرف، على ما أظن بين يوليو وأغسطس من سنة1643.
تحرير الطوالع، هو في صلب فلسفة الأعمال الضخمة، التي تريد أن ترى في الأرض، على سعتها، مجرد وعاء يجمع بين التكوينات المختلفة للعالم المتسارع إلى المهاوي أو ذلك الساعي حثيثا، إلى القمم. لا شيء يخرج عن نظام الدورة الشمسية، التي توزع الضوء والظلمة. والقيظ والصقيع. والجوع والتخمة. والموت والرحمة. ولهذا يعمد الكتاب في ذروة الرؤيا، إلى وضع كشوفاتهم، بين أيدي القراء، لعلهم يتعظون مما هو حادث في التاريخ. ومما هو سيحدث لهم في التاريخ. وعلى ذمة النفري: “حين تتسع الرؤيا، تضيق العبارة.”
وربما كان ذلك الأكثر مثولا في مؤلف أومبرتو إيكو: ” جزيرة اليوم السابق” . إصدارات أويا، تونس.، الذي نقله لنا عن الإيطالية، الأستاذ أحمد الصمعي.
فكلما توغلنا في قراءة هذا العمل الموسوعي، بشتى أشكاله التي برز بها، وبشتى إشكالياته التي طرحها، إزداد الخلاف في قراءته. فهل يعالج مسائل فكرية. أم هو يعالج مسائل دينية. أم مسائل استعمارية. أم مسائل ماضوية. أم مسائل مستقبلية. أم مسائل فلسفية، ذات منحى سوسيولوجي وأنتربولوجي وإحداثوي ولغوي واستطلاعي، لما تنتهجه القوى، وهي تغذ السير للإستكشاف والكسب والإستعمار والإستثمار. حتى لتكاد الحركة لا تتوقف عندها، على حد. أو على شبع. أو على رؤيا.
” ولا يعني ذلك أن روبارتو كان يكذب: ففي حين -كان ينال صامتا وعيونه تكبت البكاء- العقاب جزاء الغلطات التي اقترفها، فقد كان بوسعه أن يقنع نفسه بأنه بريء، وأن يحسّ بنفسه ضحية ظلم سافر”.
ما يحدث في هذا العمل، هو ما أقرّه مؤلفه منذ البدايات. فهو يتجه مثل روبنسون كريزوييه، إلى الأرض البعيدة. الأرض النائية. الأرض الخالية، إلا من الأقزام. يحشد سفينته. ويحتشد فيها. يعد العدة للمغامرة بعيدا. حتى يصل إلى الأقاصي. إلى غاياته في أستطلاع الجزر البعيدة، وقراءة طوالعها المستقبلية القاسية.
” وختم المعرف قائلا: إنظر يا بني، إن لباك مات بينما كان يقوم بإحدى تلك الأعمال الكبيرة والنبيلة التي يقولون إن المرأ يدخل من أجلها فردوس الأبطال”.
يرى أومبرتو إيكو أن أوروبا، في عز حروبها الداخلية، كانت تتحضر لركوب البحار، بحثا عن الجزر النائية لتخلصها من الأقزام. فهي لا تني تفتح جروح الأرض في كل الإتجاهات. تريد المال والسلطة. تريد وضع اليد على العالمين: العالم المعلوم والعالم المجهول. بحيث لا تسمح بما يعارض أو يعاكس أو يند عن دولتها.
“كان يعوّد نفسه على تفادي التكلف، ويعني في كل شيء , بإخفاء الجهد والصعوبة، حتى يبدو ما يفعله أو ما يقوله هبة تلقائية، محاولا أن يصبح أستاذا في ما يسمونه في إيطاليا بالطلاقة المستخفة، وفي إسبانيا ب despejo”.
يرى مؤلف “جزيرة اليوم السابق”، أن الغرب اليوم، ممثلا بأوروبا القديمة في العصر الوسيط، يعمل ليله ونهاره، على الجمع بين الأضداد. يعمل على التوليف بين الرؤى المتعاكسة. لأجل السير بمشروعه الإستعماري الذي لا يرحم أحدا. لا يرحم أهل الغرب، ولا يرحم سكان البلاد النائية، الذين لا حول لهم ولا قوة. والذين لا زالوا على الطبيعة التي نشأوا عليها، ولم يتغيروا. ولم يشعروا يوما بمرور الزمن عليهم.
” فقال روبارتو: في كزالي كان الإسبان يتحدثون عنها كشيء معروف لدى الجميع، ويقولون إنهم هم الذين إكتشفوها”.
أومبرتو إيكو، صاحب فلسفة جديدة. وصاحب رؤيا جديدة. تراه ينظر إلى العالم بعين شمولية: الكهنة واللصوص والسراق والسادة والسيادة وأصحاب الدولة من الملوك والحكام والأتباع والخصوم، جميعهم في مركب واحد، إلى الجزيرة النائية. جزيرة اليوم السابق، التي هي جزيرة اليوم اللاحق.
” وأثناء القيام بذلك تفطن إلى أنه قضى الأيام الفائتة في الهواء الطلق وفي النهار. وأنه يلتجئ من جديد إلى نصف العتمة تلك التي كانت في الحقيقة وسطه الطبيعي ليس فقط على متن دافني، قبل أن يلتقي بالأب كسبار، وإنما طيلة عشر سنوات أو أكثر، منذ زمن جرح كزالي”.
تراه يرى ما لا يراه المستكينون “التعيسو الحظ” . هؤلاء الذين سلموا رقابهم للمغامرين وللصوص. وللكهنوت. ولسياط الأباطرة الجلادين، الذين يبحثون عن الذهب، في الماء والسماء. وتحت الشمس وفي الكهوف والوديان. وفي الكتب المنزلة وغير المنزلة. وفي الكتب المنذرة وغير المنذرة.
“ماذا سيجني من ذلك روبارتو؟ الكثير. بإختلاقه قصة عالم آخر، لا يوجد إلا في مخيلته. كان هو سيد ذلك العالم. وبإمكانه أن يتدخل حتى لا تتجاوز الأحداث قدرته على التحمل.”
الكتاب الموسوعي الذي وضعه أومبيرتو إيكو بين أيدينا، وهو خاتمة أعماله، جعل فيه فلسفته الخاصة: الإنسان بقدر ما هو رجل الأرض، هو في الوقت عينه، اللص الذي يسرق الأرض، ويجعلها في كيسه. وتحت وسادته. الإنسان بقدر ما هو باني المعمورة، هو خنزير الغرس والزرع. يفسد ما عمله في البناء طيلة دهره، في برهة طمع واحدة.
” وإذن لن تكون قصة روبارتو دي لاغريف سوى قصة عاشق تعيس. حكم عليه أن يعيش تحت سماء شاسعة. لم يقدر أن يقبل فكرة أن الأرض تسبح على طول قطع ناقص، ليست فيه الشمس إلا واحدا من المشاعل”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين