تناص الرواية الفلسطينية
” البطاقة الصوتية رقم12: الإثنين19 نيسان-2021، فجر السابع من رمضان: في سبيل الرواية:
إثر فشلي الذريع ومحاولاتي اليائسة في تقصي وإثبات السيرة التاريخية لمريم المجدلية، إبان كرازة يسوع الناصري، إبن مريم في فلسطين الرومانية… فإنني سأحاول إعادة قراءة قاعدة البيانات والمعلومات في سبيل بحث علمي… من أهمها: الحضور الباهت وشبه المعدوم للمجدلية في متون التاريخ الرسمي، والتاريخ المسكوت عنه، ايضا”.
تشتبك الرواية الجديدة عادة مع قديم الروايات. ينشأ بين الرواية هنا، والرواية هناك، كم عظيم من المواد المختلطة التي تشبه إلى حد بعيد، ما نجده على الطرس/ الجلد، بعد دهر من التدوين عليها. فحين نعود نتفحص أصل النص الجديد، نجد أن مادته قد إشتبكت مع المواد السابقة عليه. وهذا ما يسهل عملية البحث عن الأصول الأولى لهذا العمل الجديد. لأن الطرس لا زال يحتفظ بها، ولو بأشكال مختلفة. يشف هنا. ويغرق هناك. وربما تغيب المعالم المكونة، ولكن سرعان ما نجد أنه يشي بها.
رواية باسم خندقجي: “قناع بلون السماء. دار الآداب. بيروت-2024: 240 ص. تقريبا”، تأخذ من الطرس وتتصدق علينا. تبين فيها معالم رواية الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني: عائد إلى حيفا كهيكل عام. كما تبين بين السطور ظلال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في بعض معانيه الأفقية و العمودية، خصوص في قصيدته الشهيرة: الخروج من ساحل المتوسط. وهناك بعض العلامات النابتة، من أعمال الشاعر أدونيس، خصوصا في قصيدته إسماعيل. ومن روايات الكاتب إلياس خوري الذي يرافقه كظل دائم.
” لتنتعش آمال خديجة من جديد بالزواج من مهدي، وهذا ما حدث… سمية باحت بسر الخذلان لخديجة. وخديجة باحت هي الأخرى بالسر لنور ثم صمتت. ونور تجرع السر وصمت.. والبيت كله صامت.”
هذا التناص الروائي، لمما يزيد عمل الكاتب الفلسطيني باسم خندقجي غنى، الذي إستطاع بفنيته الروائية الجديدة التي إختطها لنفسه، أن يمنحنا الإنبهار في التكوينات المختلفة، التي قدمها لنا، خصوصا في الأقسام والفصول التي عرضها. وهي تشف عن المعاني العميقة. وتجعل من ظلال الثقافة الروائية عنده ما يقيم المشاهد الباهرة.
” يعيد الهاتف إلى جيبه. يمكث أكثر من نصف ساعة ساهما في الفراغ المعتم دون أدنى همسة. ثم يقف بثبات. ما الذي يفكر به نور؟”.
لعل محتوى هذا العمل الروائي، أوسع بكثير مما يوحي به الطرس الذي إستخدمه، صاحب هذة الرواية. فإنطلاقا من جلجلة العذابات التي قاساها، ومن عنف القلق أو الخوف الذي أصابه في تخفيه، وفي تقمصه، وفي تمويهه، تصبح حالة الروائي باسم قندقجي، حالة فريدة، لها بصمتها الذاتية الطابع، ولو كانت تستقي من طرسها. فلا تضير الرواية في شيء ذرائع الأسلوبية والسردية واللغة السوقية والبذاءة، لأنها تقوم على التابوات، بحيث تند جميع الإعتراضات عنها. إذ في الرواية من الإبتكار والتجديد، ما يجعل من ناصية النص طوع تأملات القارئ الحصيف، الذي يدرك معنى الذهاب إلى العذوبة الشعبية، بغير الأباريق الموشاة والمذهبة.
“لقد إنتفضت في وجهي الإشكنازي ما بين هزل وجد، وود وكراهية..لتعلمني أن أمثالي اليساريين ممن يصوتون بالإنتخابات لحزب العمل أو “ميرتس”.”
لا شك أن الرواية في زمن باسم قندقجي، هي غيرها في زمن الروائيين والشعراء والأدباء السابقين. وهذا ما كرس له فرادته وصيغته وجدته: أسلوبا ومحتوى. ولذلك يمكن أن نقول عنه: إنه مجدد الثقافة الفلسطينية الروائية بخاصة، ومجدد الرواية العربية بعامة.
” – كلا… أنت مجرد حاقد ومفترس للحقائق التاريخية. فأجدادي زرعوا هذة الغابة من أجل الإستجمام والتنزه والتخييم لا أقل ولا أكثر. دعك من رائحة الموت والخراب، وإلا سأنكبك مرة أخرى الآن بفضيحة مجلجلة”.
في عمله الروائي الذي بين يدينا، ، يمكن أن نتصور هذا المثقف الفلسطيني الجديد، سخيا كل السخاء في أفعاله، كما في أقواله، عن جيل الشباب الفلسطيني العصري المغامر الذي يشق الأرض، كما لم يكن في السابق. هو الذي أمضى السنوات في التخفي والتقمص، ساعيا للكشف عن هوية فلسطينية بين الركام، وتحت ثقل التاريخ.
“في سنة1931، كان سكان اللجون يتألفون من829 مسلما و28 مسيحيا ويهوديين إثنين. وهذا ما يؤكد إفتراضي القائل بوجود بقايا أسرة سمعان الأعرج التي صار إسمها على مدار الأجيال أسرة مسك العطار”.
عمل الروائي الدؤوب على تقصي الحقائق والوقائع، فوق التراب الفلسطيني وتحته، يبطل ما تقوم به الهيئات الثقافية الرسمية في إسرائيل فوق الأرض الفلسطينية وتحتها. يتابع الأثر الفلسطيني كقائف عنيد، يرفض الزيف والتزييف والتهويد، طلبا للأسرلة الزائفة. مما يمنح الرواية فرصتها لتجديد الهوية الفلسطينية، التي تكاد تغيب، بعنف التزييف الممنهج. وبعنف التغريب القاتل. وبقوة الواقع، الذي يستند إلى عصر القوة المحض، الذي يجرف المعالم ويزيل الآثار كمجرم عنيد.
” يقترب منها، يطأها ثم يلجها بكل ما أوتي من نشوة وقسوة، لتتحرر هي من نيكول وإيميلي اللتين توحدتا معا من جديد، بإحتكاك مثير متسارع. تحدق أيالا بأور الواقف بجانب السرير.. تصرخ بإثارة وغواية:
- هيا تعال، وأرحني من طنين النحل بين فخذي.” يتعامل باسم قندقجي، مع الوقائع الغريبة، مثل “سعيد أبي النحس المتشائل” في رواية أميل حبيبي. الفلسطيني المنكود الحظ. المغامر الذي يسبقه حتفه، تماما كما يسبقه ظله. يحاول أن يجعلنا نلتقط البرهة الفلسطينية ولا نضيعها في غمرة الأحداث الجسام وإحداثيات الحروب، التي توالت على الفلسطيني الدؤوب. المنكب على الحفر، للوصول إلى اللقى.
” – وتقول إسمي بالعربية أيضا… أي نوع من الأشكنازيين أنت؟.”
وبصرف النظر عن قوة الدراما وروعتها في هذا العمل الفلسطيني الجديد، فإنه يتمتع بنجاح غامض، ليس كله من حبر الطرس وأخباره، وإنما من المتغيرات الطارئة على العمل الفني، بإعتباره شاهدا على العصر. فنحن أميل إلى تتبعه، تماما كما يجد وراء بوصلته، دون أن نغرق في أوهام الجمهور في شيء من الرهبة المؤسطرة. فقد عمل بقوة على سيكولوجية هذا الجيل الفلسطيني، وجعله أكثر أهبة للإستمرار في إندفاعه، وراء وطنه المنهوب. وراء وطنه المسلوب. وراء وطنه المغدور و المقتول.
“ليل الجمعة- 7 أيار: بىر مسك العطار هي بئر المجدلية: إن فرصة الذهاب إلى مستوطنة مجدو ما هي إلا إشارة مجدلية أخرى مباركة، عززت من توجهي الرواىي وقاعدته التفصيلية، التي أخذت تنحو منحى الواقعية..”
ففي مقابل كل شخص يقرأ رواية أو عملا فلسطينيا ناجحا، نجد حشدا من الشباب في إندفاعة السيل، يريد تعرية الأسرلة الناهبة لكل شيء، في البر والبحر والفضاء المترامي، من أول التاريخ حتى اليوم.
” لن يكفيك إعتذاري مما إقترفته أنا اليوم، أعلم.. أعلم.. من حقك أن تنزع قلبي الآن لتغسله وتنزع منه علقة خبيثة إمتصت دمي، وأحالتني إلى مترجم صهيوني فصيح اللسان… من حقك أن تقيم طقسا الآن لطرد شياطيني، شياطين مريم المجدلية التي يبدو أنها قد مستني”.
باسم قندقجي، يورد موضوعة الحرب مثالا تطبيقيا. يتركنا نتفاعل مع فكرة البطولة والتضحية في حرب بلا حرب على غير العادة. حرب لا تتمنى الموت لنا فيها، أو لأحبائنا. لأنه تمكن في روايته، من تمديد فكرة الحرب، على أمثلة حياتية كثيرة، من خارج أوراق الطرس. إذ لا يمكن نكران هذا الأمر في روايته المجددة، لأنه يمثل ظل باسم قندقجي الشخصي الروائي المتابع لآثار المجدلية وبسمتها الهاربة في معظم وقائعها.
” لا ينبس ببنت شفة. تدمع عيناه. يخرج هاتفه من جيبه. يعيد برمجته إلى اللغة العربية. ويضع حقيبته في مؤخرة السيارة، يتنهد بحرارة. ثم يصعد جالسا بجانبها. يحدق بها بتأثر عميق. يغلق الباب. ثم يقول لها قبل إنطلاقهما معا هامسا بكل ما أوتي من لغته العربية المستعادة:
- أنت هويتي ومآلي.”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.