أدب التجربة
د. فاروق بزي نموذجا
“هذا الكتاب، مخاض ذلك الصخب، أو على الأقل، يحمل دفعة منه، إذ لا يمكن فصل التجربة عن ظروفها ومعاناتها. فقد عشت مع الأطفال مدى تلك السنين، أعالجهم، أداعبهم كأنهم أطفالي. ولا يسكن لي بال، حتى يبرأ المريض من إصابته… ولا يسعدني شيء أكثر من شفائه.”
يعود كثيرون من أصحاب المهن ومن أصحاب الإختصاص، إذا ما كان لهم أدنى مسكة بالقلم، لتوثيق مراحل حياتهم. والأشواط التي قطعوها. وللكتابة فيما يشعرون به، وهم يخوضون في شؤونهم، وفي شؤون أعمالهم، خصوصا، إذا ما كان عملهم، على صلة ماسة بالناس وبالمجتمعات وبالقطاعات. يدفعهم إلى ذلك، إحساس داخلي بالمسؤولية. وشعور غامر بالفرح، إذا ما خاضوا في تجربتهم، وأنجزوها في أوراقهم. فيصير همهم بعد ذلك جعلها في كتاب، ووضعها بين أيدي القراء. إيمانا منهم بالرسالة الإنسانية الملقاة على عاتقهم. إذ كل إنسان هو مسؤول. فما بالكم، إذا كان يتحسس المسؤولية على كتفيه. فنراه ينهض لها بكل جسارة، مجربا حظه من التقميش والتوليف والتأليف والتدوين والتحرير، حتى مرحلة الإنجاز الكامل في كتاب.
الدكتور فاروق بزي، هو واحد من الكثيرين، الذين تحسسوا بالمسؤلية الملقاة على عاتقه، وهو يقطع أمره ودهره بين أبناء جلدته. يريد أن يضع بين يديهم، تجربته الثرة في الحياة وفي الطب، الذي طلبه، بلا طلب منه. فإندفع بكل حضور، لإثبات المثبت في نفسه، من العلم والعمل والإخلاص والتأدب. ولا غرو، فهو على طريق أطباء كثيرين، سبقوه إلى هذة التجربة. خصوصا منهم، أطباء الأرياف. إذ كانوا يقعون على لقى عظيمة: في شؤون شتى من المجتمعات، فيحملونها معهم. يدونونها ويعالجونها. ويتمحصون ما فيها من وجوه إنسانية بعامة، ووجه مجتمعية وشخصية بخاصة. إذ طبيب الأرياف يقف على الأقاصي، يتحرى ما فيها بعمق تجربته الخارجة لتوها، من ليالي المدينة. من السهر في مختبراتها، ومن المتابعة في قاعات الدراسة. ومن الزيارات في العيادات وفي المستشفيات، وفي الأندية والمدارس، وغير ذلك من شرائح المجتمعات والتجمعات.
كتاب الدكتور فاروق بزي: ” مبادئ الطب الوقائي. في الصحة والأمومة والطفولة. الفارابي. بيروت: 425 ص.” يوثق نفسه بنفسه. يقدم نبذة عن حياة المؤلف التي توزعها، بين القرية( بنت جبيل) والمدينة( بيروت). ثم بين لبنان وفرنسا. وكذلك بين غرينوبل ومعظم البلدات الأوروبية التي زارها. قبل أن يعود إلى وطنه لبنان، فينخرط في مهنة الطب ولا يبرحها. دون أن ينسى متابعة شغفه في التقميش والتدوين والتحرير، متوقفا عند أدق المراحل التي عاشها. ليتجاوز ذلك للحديث عن النصائح والإرشادات الطبية التي ينصح بها قراءه، إذا ما كانوا يمرون في أوضاع صحية، كتلك التي تلمسها في كتابه، وفصل فيها.
إلى جانب المقدمة الوافية عن حياته، وإلى جانب حديثه العذب عن ذكريات الطفولة والشباب، يسجل المؤلف: قسم أبقراط، وصلاة موسى بن ميمون الطبيب، وهما راسا الطب وأبواه. ثم يأخذ في الحديث عن الطب بإعتباره فنا. وعن الفحص السريري، وعن مساءلة المريض والتشخيص.
يتحدث المؤلف في كتابه بعيد ذلك، عن الأمومة وبعض الأمراض خلال الحمل. فيشرح ما على الفتاة أن تعرفه عند الإستعداد للحمل. وكيف يجب أن تراقبه طيلة فترة الحمل. من العلامات السريرية للحمل إلى الفحص السريري العام، إلى فحوصات تأكيد الحمل. ثم يقدم لمحة عامة عن أشكال الولادة ومراحلها. وعن الحصبة الألمانية التي يمكن أن تتعرض لها. وعن وسائل مراقبتها وطرق إنتقال العدوى وإرتفاع ضغط الدم الشرياني والخطر على الجنين. ناهيك عن حديثه عن داء السكري والحمل وعن التسمم والحمل. وسبل الوقاية من ذلك.
” من الوسائل العلاجية والتشخيصية التي إعتمدت: مراقبة وتيرة نبض القلب وعلاقته بتكون الإستسقاء( الوذمة)، مناطق تمركزها، لون وحرارة جلد المريض وعلاقة تكون الورم مع تغير وضعية الجسم…”
كذلك، ينتقل المؤلف للحديث عن الصحة النفسية والعصبية والتغذية والغدد الصماء عند المرأة الحامل. ويقول إن للكوليسترول سمعة سيئة، رغم حسناته أيضا. لينتقل للحديث عن المداواة الذاتية ونفعها وعن الغدد الصماء، داخل الدماغ وخارجه. وسائر الغدد المتمركزة، في غير مكان من الجسم.
” من الناس من يتبع حمية خاصة، تيمنا بالحكمة: المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وآخرون سلكوا سبيل الإعتدال يتروقون كالملوك، يتغذون كالأمراء ويتعشون كالفقراء.”
ويتوقف الباحث أيضا عند مرحلة الطفولة. ويشرح ضرورات النظافة ومراقبة النمو، وسبل الحماية. فيتحدث عن المولود الجديد في ساعاته الأولى وعن صفات الأطفال الخدج وعن العلامات المرضية عند الطفل الخدج. وكذلك عن أسباب الولادة المبكرة. ويقدم الإرشادات والنصائح للمحافظة على القواعد العامة لصحة الطفل الحديث الولادة. وكيف يجب مراقبة نموه وحركته وحواسه وتعبيره الجسدي والحركي. وكيف يجب حمايته من ضربة الشمس ومن لفحة الهواء.
” هذة العلاقة النفسية والعاطفية، ذات الطابع فائق الخصوصية، بين الأم ورضيعها، دفعت بالعديد من الأوساط الطبية، التي تهتم بشؤون رعاية الأمومة والطفولة، على إعتماد عادة من عادات القبائل الأفريقية، والتي تقوم على ملازمة الأم لوليدها، ليلا نهارا، لمدة أربعين يوما…لتمتد إجازة الأمومة فيما بعد لفترة تطول أو تقصر، حسب تطور المجتمعات، ونظرتها المستقبلية للطفولة والعائلة على السواء.”
وفي فصل قيم، يتحدث الدكتور فاروق بزي، عن الطب المدرسي والصحة المدرسية. وضرور تقديم دليل الأهل للحفاظ على صحة الأولاد. وهو يحث المدرسة أيضا، للإهتمام بصحة أطفال الروضات وتلاميذ المدارس، والإنتباه لغذاء التلاميذ، وإحترام التوازنات التي تزيد قدرة الإنتاج عند الأطفال.
” خلال الشهرين الأولين من عمر الطفل، يكون الرأس والجذع في وضعية رخوة… نلاحظ التطور العكسي بين الأطراف العليا… والأطراف السفلى.”
يقف الباحث أيضا، عند الطب الوقائي وعالم اللقاحات. ونراه يصر على ضرورة الإكتشاف المبكر لأمراض خطيرة تصيب الأطفال. ولهذا يدعو لحماية الطفل من الأوبئة والأمراض القاتلة. ومراقبة جهاز المناعة لمحاربة الأجسام الغريبة والملوثة. وضرورات تقديم اللقاحات ومكافحة الأمراض الخبيثة. مفصلا في الحديث عن الطب الوقائي باللقاح ومكافحة “الروتافيروس” وجرثومة الإسهال الحاد.
” لن ننسى ظاهرة “داون” أو المرض المنغولي الذي يشخص باكرا قبل الولادة، من خلال تحاليل وصور متخصصة، أو وجود خلل في الجهاز العصبي المحيطي لدى الرضيع..”
ويقدم الباحث شرحا مفصلا للأمراض الأكثر حصولا عند الأطفال والأولاد وسبل الوقاية منها. مثل الأمراض الجرثومية المعدية وقصور الغدة الدرقية والسمنة التي تصيب الأطفال وفقر الدم ونقص الوزن والطول والقصر.
وهو يرى ضرورة الوقوف على فئات الدم ومراقبة إرتفاع الحرارة. ويقدم إرشادات عامة لتخفيض الحرارة. ولا ينسى الحديث عن حالات الإستفراغ عند الأطفال والأولاد وكذلك عند التجفاف الحاد وعلامات وطرق مواجهته.
وهناك حديث مفصل عن السعال وسبل الوقاية منه. وعن الجراثيم وأنواعها. وعن أشكال السعال ومسبباته الأخرى. وكذلك عن مرض الربو وعوامله والنصائح للوقاية منه بلوغا للشفاء التام.
يتحدث المؤلف أيضا، عن الأمراض الجلدية التي تصيب الأطفال. تلك التي تعبر عن أمراض داخلية. أو غيرها الخارجية. ويتوقف بصورة خاصة عند الأنتانات الأنفية البلعومية الحادة. ومتى تحصل وما هي علاماتها. وما هي سبل الوقاية منها.
” تعرف البدانة بزيادة الكتلة الدهنية في جسم الإنسان، دون الأخذ في الإعتبار الزيادة في الوزن عموما، لأن الزيادة تشمل نمو العضلات والعظام وتراكم المياه في الجسم.”
يتحدث المؤلف أيضا، عن إلتهابات الأذن الوسطى لدى الأطفال ومضاعفاتها وسبل الوقاية منها. وعن إلتهابات المجاري البولية وقصور الكلى وإلتهابات اللوزتين الحادة. وإلتهابات القصبة الهوائية والشعبيات.
” العمل بخاصة على مراقبة البيئة التي يعيش فيها الطفل، خصوصا في المدارس ودور الحضانة، مع تأمين تدفئة معتدلة داخل الصفوف في فصل الشتاء، والإحتفاظ بدرجة رطوبة مناسبة. وعدم كساء الطفل زيادة عما يلزمه وقاية لتعرضه للمجاري الهوائية وإلتقاط الجراثيم.”
وفي الكتاب شروح مفصلة، للإلتهابات الرؤوية والغدد اللمفاوية العنقية. وإلتهابات الجيوب الأنفية وإلتهابات المفاصل وإلتهاب السحايا البكتيري والأنفلونزا أو “الكريب”. وجدري الماء.
يتحدث المؤلف أيضا، عن الصفيرة أو اليرقان وعن مرض الأيدي الوسخة والتفوئيد ومرض “أبو كعب” والسعال الديكي والحمى المالطية ومرض الحصبة أو “الدشيشة”.
وينتهي الدكتور فاروق بزي، في كتابه، للحديث عن نحيب الأطفال وتشنجات النحيب والإغماء و(الغشية). وكذلك عن شخير الاطفال وإلتهاب الدودة الزائدة. وضرورة التشخيص التفريقي لإلتهاب الزائدة الدودية عند الأطفال. ناهيك عن حديثه عن الإنسمام بالفول الذي يصيب الدم بالإنحلال. فيتوقف عند هذا المرض مليا ويشرح النزف الحاد في البول والعاهة الوراثية وحمى البحر المتوسط العائلية، ويقدم تفاصيل كثيرة حول ذلك.
الدكتور فاروق بزي، يقدم في كتابه هذا تجربة خمسين عاما في الطب العام وطب الأمومة والطفولة. ولا غرو، فهو الطبيب الزائر المجتهد الذي أعتمدته معظم المدارس والجامعات ودوائر الصحة العامة في وزارة الصحة العامة وخارجها، لتقديم الإستشارات الطبية، ومساعدة الأجيال على التخلص من كثير من العاهات، الناتجة عن قصور طبي. ويعتبر كتابه هذا مرجعا طبيا أكاديميا عاما، لا غنى عنه في المكتابات الخاصة في المنازل والمدارس، ولدى التلامذة الأطباء.
” هل قدر لإنسان ما، ولد لأبوين، لا تبدو عليهما علامات مرضية، ويحمل أحدهما أو كلاهما على إحدى صبغياته عاهة …. ماهذا اللغز الذي يسمح لهذا المرض بالبقاء، لفترة تمتد ربما لسنوات، كامنا من دون أن يعاني حامل العاهة، من علامة مرضية؟”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصي الحسين