سليل الشعراء
” منذ صغري… حفظت آلاف الأبيات الشعرية في المرحلة الثانوية، للشعراء العرب. وكان للمتنبي النصيب الأكبر. إضافة إلى إمرئ القيس وعنترة بن شداد. وجميل بثينة. وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس وأبي تمام وإبن الرومي وغيرهم… فإن المرحلتين: الإبتدائية والمتوسطة، كانت من نصيب الشعر العامي، خصوصا أنني سليل بيت شعري، أتقن أهله هذا النوع من الشعر. فجدي لوالدي الشاعر يوسف مطر الحاج، كان معروفا في أوساط منطقته بالقرادي والعتابا. ووالدي الشاعر زكي يوسف الحاج، أيضا، الشعر… فكنت أسمع منهم من أشعار نقولا الحمصي، إبن إيعات. وحسن الحجيري إبن عرسال. وأبو سطام، سنبلة بعلبك. وإلياس النجار إبن دير الأحمر… ومقطوعات لأسعد سابا وأسعد السبعلي. وميشال طراد… ثم دخل إلى ذاكرتي شاعران جديدان هما: يونس الإبن وإيليا أبو شديد اللذان كان لهما وقع مميز في تلك الحقبة.”
أكثر ما يغريك في قراءة أعمال جورج زكي الحاج، هو أنه شاعر وناقد. وقلما إجتمعت هاتان الرحلتان لأديب، إلا وكان على قدر من السفر. على قدر من تجشم المشاق، وتجاوزها إلى الغايات العظمى. فلا يتعب، إلا بعد أن يهزه الشعر. إلا بعد أن يهدهده النثر، فيعود إلى راحته في سرير طبيعته الشعرية، كطفل يحلم من جديد أن يرحل إلى القمر.
“في العام1974, أسست في مدينة بعلبك، مع عدد من الزملاء، مجلس الجامعيين في منطقة بعلبك- الهرمل… كانت باكورة نشاطاته، أمسية شعرية. فإقترحت إسم موريس عواد… وكان لقائي الوجاهي الأول مع هذا الشاعر، يوم عيد العمل في الأول من أيار من العام 1974.”
لا يرتاح جورج زكي الحاج من السفر الدائم. إلا لتكون راحته هذة فرصة للهدوء والسكينة، التي تسبق عاصفة الرحيل من جديد. فهو دائما على قلق، بين سريرين: سرير الشعر وسرير النقد. ومن كان حظه كذلك من الأدب، كيف لا يخرج كل يوم على قرائه بكتاب.
” هبة عطر- 1979. ورد وغار-1981. الصوت المصلوب-1993. رخ الندي- 1997.قصيدة الحسين-2006. شو حلو مبارح-2010. على جسد الصحراء- 2014… وفي القصة: وعد-1979. جدول الضرب-1997. ..وفي الفكر الأدبي والنقدي: جمالية سعيد عقل شاعرا – 1979. الفرح في الشعر اللبناني-1992. إبداع العامية- 2018. الرؤيا… مدخل إلى شعر موريس عواد -2017… في الكتاب المدرسي… كتب جاهزة للطبع… بعلبكات – شعر . النقد من الأكاديمية إلى الإبداعية. وشوية عتابا – شعر.
كما فنون الشعر بيده، كلها. كذلك فنون النقد. كان من حظه أنه سليل بيت، توارث الشعر أبا عن جد. وكان من حسن حظه أيضا، أنه أخذ النقد من أعمدة الصحافة ومن أعمدة الآداب. فكان نثره يولد في مخبز الصحف، كما صار نقده يعظم في في مختبر كلية الآداب: طالبا مجدا، وأستاذا راقيا. وبذلك إكتمل له مجد الشعر و النقد.
“الشعب الما عندو شاعر كبير، ما عندو شي كبير…. لم تقع عيناي على إنسان يشبه الشاعر… الشاعر يسكنه الشعر. يتلبسه. يغمره من رأسه حتى قدميه، فيتحكم به كيف شاء. ويطبع حياته اليومية بطابعه الخاص…”
يستوقفني جورج زكي الحاج بقلمه الطيع بين أنامله المدربة، في مدرسة البيت، وفي رواق الأكاديمية. وأما عمله النقدي: “الرؤيا… زورق الجمال. مدخل إلى شعر موريس عواد. ط. إنطوان الجلخ.لبنان: 120 ص”. فهو خلاصة تجربتين: تجربة الشعر. وتجربة تذوق الشعر. جعلهما الباحث هنا، الشاعر هناك، يذوبان في قالب أكاديمي رصين. بحيث تناول موضوعات عدة، وهو يتتبع الشاعر الكبير موريس عواد، كناقد وشاعر في آن.
” هناك تقارب وتشابه بين ديوان ” آخ” و”حكي غير شكل”، الديوان الرابع لموريس عواد، من حيث المضمون، ومن حيث الثورة التي تعتمل في نفس هذا الشاعر، على كل ما هو مزيف وحرف، وضد الحقيقة، التي من أجلها كان الإنسان.”
قدم المؤلف لعمله بتوطئة، ذكر فيها كل ما يحيط بنفسه وبالشاعر موريس عواد. فكانت مثل هذة التوطئة هي المفتاح الأساسي، للإلمام بحياته كشاعر وناقد، وكذلك بحياة وشعر موريس عواد، الذي أنشأ جيلا من الشعراء ، طار من راحتيه. وحلق في سماء الشعر.
1- فعن موريس عواد والشعر، يمكن لنا أن نتعرف إلى مدرسة هذا الشاعر العملاق، الذي أرسى قواعد الشعر المحكي، وسيره في لبنان، من أقصاه إلى أقصاه. كانت دواوينه تصل إلى المدارس في القرى وفي المدن، فيتعرفون على أقنوم أخاذ مبدع من الشعر. فتعشقه الأجيال على السماع. وتتحققه من ثم في الدواوين. ويصير جزءا من ثقافتهم الوطنية والأدبية.
“إن الشاعر إبن قضية… وقد بلغت ذروتها عندما أجدبت أرضه ومحلت سنينه، فصرخ واصفا، معاتبا وراجيا:
” وقبرك شو صرلو؟/ مسقعا حجارو/ وباب الكنيسي صار باب من البواب/ عم ينقصو ع العيد زوارو.”
2- تحدث الباحث الدكتور جورج زكي الحاج، أيضا عن إتجاهات الشعر عند موريس عواد. قال إنه بعيد الغور في غاياته وأهدافه. فهو العبور إلى الجمال. وهو الصمود عند جدران الوطن. وهو الغناء الذي يهز أبناء القرى ويجعلهم يذهبون إلى تقليد النبوغ الشعري في معينه الأصلي، عند موريس عواد. بحيث لم يبق شاعر واعد واحد، إلا وتحلق حول موريس عواد، يعب من مدرسته، ما لذ وطاب من الشعر.
“إن قارئ شعر موريس عواد، بتأن وتبصر، يدرك جيدا أن السيد المسيح، كان هاجسه الأكبر، ورفيقه الدائم في شعره كله..”
3- الإتجاه الإنساني في شعر موريس عواد، كان محطة الباحث الحصيف. إذ وجد في شعره، كل هاتيك الرقة. وكل ذياك الجمال، في تناول جميع الموضوعات الإنسانية، التي ترق لأجيال الشباب، ولأجيال الصبايا. تماما كما ترق لجميع اللبنانيين وتروق لهم، وهو يفاتحهم بجروحهم. وهو يكاشفهم بأحزانهم. وهو يفاجئهم، بأنه في الطليعة من صفوفهم. يقف على الجرح الإنساني القديم، ويحاكيه بلغته المعاصرة. بلغة الأهالي الذين لوعتهم الحرب، وجعلتهم يخسرون ويفقدون ويعيشون حالات الوجد والفقد.
“ويبقى الجنوب محور الإتجاه الثالث. يبقى الإبن المدلل، المخطوف عنوة. وكاد ينساه المسؤولون، لولا بقية من مؤمنين به وبحريته… وتأتي قصيدة “يا جنوب أهلي” وقصيدة “سنين مالحا”، تفجر حزن الشاعر وأمثاله، على قطعة أنبتت أدمغة شعب لبنان العظيم”.
4-تحدث الباحث أيضا، عن الإتجاه الإيماني عند موريس عواد. فهو إيمان من صنع يدين طاهرتين. إيمان الشاعر الذي رققه الشعر حتى أذاب شعره، ورده إلى الينابيع. إلى عالم الألوهة والخلق والإبداع، الذي هو معطى الربات والآلهات. ولا غرو فأي شاعر مثل موريس عواد، يمكن أن يجعل الشعر يذوب مثل شموع العيون في هياكل الألوهة الشعرية الصافية.
” إن إدراكه الواعي للحقيقة الخالدة، وإيمانه الثابت بها، قد ولدا عنده بعد الرؤيا، وفعل الحركية المستمرة الهادفة إلى الصيرورة المكونة بفعل السيرورة الدائمة، التي منها كان الفن والفنان…”
5- يرى الناقد الحاج، في شعر موريس عواد، ما لا يراه غيره، في تتبع الإتجاه الوطني والإتجاه القومي. كيف لا وموريس عواد، هو إبن الجبل الذي راعه ورعاه. فكان متكأه على مدى، قرون الظلم والإضطهاد. وهذا ما فجر في نفسه حمأة خالصة للوطنية وللقومية، هي من إنشاء يديه الشاعرتين. ولطالما نراه يتغنى بلبنان، الذي كان مرتع الجمال وموئل العشاق. يؤمه الزائرون من الأقاصي، كمن يحج إلى وطن الإبداع. ففي ربوعه، تصاغ البطولات. وبين أنحائه تعظم المنجزات. وأما الأجيال التي تعاقبت على وراثة معناه، فهي لا يمكن أن تنساه في الملمات.
” لقد مر معنا… عدد قليل من الشعراء والأدباء الذين تميزوا بجرأتهم وبمواقفهم المناهضة للحكم ولأهله، وأتى تعبيرهم عن هذا كله ببيت شعري أو بقصيدة أو بقصيدتين. لكننا لم نتعرف شاعرا بجرأة موريس عواد وبثورته الناقمة التي ما هدأت… لقد إقتنع أن لا صفة لحكامه غير الذل والجبانة والخنوع. فإنتفض وثار، ولم يقبل بالسكوت أو بالتعبير الشفهي فقط.”
6-في شعر المرأة والغزل، هو من أجمل فصول الدراسة. وقد أحفزته على الإبداع فيه، عبقرية الشاعر والناقد. فموريس عواد، هو من أجمل الشعراء الذين تغنوا بالمرأة اللبنانية. وقف على بابها يناجيها ويحاكيها ويرجوها ويشتاق لسماعها. يشتاق لملاقاتها، على المنحنيات وتحت الأيكات، وعلى الشبابيك، وفي دروب الحقول، وفي النبع، حيث الجرار ملأى بالماء والحب.
” في غزله غير إتجاه واحد، فهو حينا عاشق بإمتياز، وعشقه يكون هادئا، ناعما، فيه الكثير من نفحات البراءة والطفولة وبعض القداسة.”
جورج زكي الحاج، هو أعظم من ناقد، تتبع خطى موريس عواد، وطاله بقصب الشعر أيضا، كما طاله بقصب النقد. كيف لا، وهو الذي تتلمذ على يده وأخذ من نبعته. ومشى في دربه، شعرا ونثرا. بالفصحى مرة وبالمحكية مرة أخرى، فكان أن نال بكتابه هذا عن الشاعر وشاعريته ورسوليته، قصب السبق.
“لا أريد التوقف عند الصناعة الشعرية في بعض قصائد موريس عواد، لأن العفوية سمة بارزة في كثير من شعره الإنساني وشعره الوطني، مما يعني أن شعره في المرأة لا يخلو من بعض الصناعة. وقد طالعتني قصيدة في ديوان “مبارح كنا ولاد”، تحت عنوان “نسمة حب من الشمال”:
” من وين إنتي؟ قال من صوب الشمال/ وبيتنا ع البحر، بتحب البحر؟/ كل البحور بحبها. بحر الشعر/ وبحر هالعينين هالكلن شعر/ وبحر لون بلوزتك، والموجتين/ وشطن أنا، وهني عليي طفلتين.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين