منح بك
في الذكرى العاشرة لرحيله
في كتابه: منح الصلح. رأس بيروت، العصر الذهبي… الجامعة والحي. نلسن-2024، يقول الأستاذ والأديب سليمان بختي، على الغلاف الأخير:
هذا الكتاب، تحية إلى منح الصلح، (1927-2014)، في الذكرى العاشرة لرحيله. منح الصلح، أحد الدعاة الكبار للعروبة الحضارية وبيروت ولرأس بيروت، حيث نشأ وعاش وترعرع…. كلما ذكرناه أو تذكرها أدركنا حجم الفراغ المتسع في المكان. وإن قنطرة عالية في بيروت، ما عادت في مكانها…حاضر بفكره ومنهجه وأخلاقه وثقافته وطريقته. مارس السياسة من باب الثقافة. وهو كان يقول عن عمه الرئيس تقي الدين الصلح، بأنه “كان سياسيا مبطنا بأديب”. ولا عجب، كان يردد هذا البيت الشعري بينه وبين نفسه:” يقولون لي ما أنت في كل بلدة/ وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يسمى”.
عرفت منح بك، عن قرب. كنت ألتقي به، كلما كنت في بيروت، زيارة أو إقامة. أذكر قامته الفارعة، تطل من أقصى شارع الحمرا. أستأنس به. أنتظر حتى يصل. ويتقدمني، حين أدخل مقهى كافيه دي باري، أو مقهى هورس شو. أو مقهى المودكا. أو مقهى الوينبي.
أنيس المجالس، منح بك. يركن عكازه المميزة جانبا، ويتصدر الطاولة: لا تمل فواضله. لا تمل نكاته. لا تمل أحاديثه العذبة التي تصدر عن نبع صاف، عذب وغزير..
لا أريد التعريف بمنح بك. فقد أوفى الأستاذ سليمان بختي بخته، بما دبجه عنه، في مقدمة الكتاب. إذ يمكن أن تكون تلك المقدمة بيانا بلسان كل من عرف منح بك أو تعرف عليه.
منح بك، هذا هو إسمه بين أقرانه ومعارفه وأصدقائه ومحبيه. يمشي الهوينى، كما ملك. متواضعا كإبن بلد. شامخا كمفكر، أو فيلسوف. يحمل حدثانه في جبهته العرضة الشامخة. و بعينيه السابقتين. وبقامته الفارعة. ينحني كصنوبرة، صنو صنوبرة رأس بيروت. ثم هو يسترسل تحيات، وطيبات من أحاديثه وحدثانه العذاب.
كانت مقالاته، التي تتصدر الصحف اللبنانية والعربية، كما كلماته على منابر بيروت، من ندى الروح والعقل والقلب. تستمع إليه، إن تحدث، حيثما طاب له الحديث، وحيثما تقدم، من الأصدقاء والزملاء ومن كوكبات المثقفين. مفكر عروبي، أكثر مما هو عربي. لأنه كان يؤاخي في طلعته، بين الشرق وبين الغرب، كما المتوسط الكبير.
كان، كلما إلتقيته، أرى فيه الرجل الأمجد. يسألني عن طرابلس- الشام. كانت لها حصتها العظيمة من حديثه. كان يراها، معدن العروبة، وشقيقة بيروت. وأما أهل طرابلس عنده، فهم العشير الذي يندى، شهامة ورجولة ومواقف وعروبة وأصالة.
إلى جانب مقدمة الكتاب الشفيفة عن شخصية وحياة منح بك، بعناية وتحرير سليمان بختي، الذي عرفه عن قرب، يحوي المؤلف أيضا فصلين آخرين، يشكلان بعض سيرة طويلة عن منح بك وعن رأس بيروت، العصر الذهبي… والجامعة والحي. روى سيرته للأستاذ محمد أبي سمرا، فكان ناصعا فيها، كأديب شفاف. وأما حين روى نفسه بنفسه، فكان حكاية رأس بيروت. إذ شف عن مقام متيم، شغوف، عاشق، لرأس بيروت والحي الذي كان يقطن فيه. والجامعة. و مقهى فيصل قبالتها في شارع بلس، حتى لكأنه يكاد يذوب حنينا لتلك المرحلة.
يقول لمحادثه ومحدثه الأستاذ محمد أبي سمرا:
لم يصبح للعرب تاريخ عربي واحد في العصر الحديث، إلا منذ العام 1956. (يقصد تاريخ تأميم قناة السويس). إبتداء من تلك السنة فقط، صار ما يحدث في أي بلد عربي يؤثر في سائر البلدان العربية. ذلك التداخل والتسليم والتفاعل، أوجد ما أسميه التاريخ العربي الواحد. وحتى العام1958، كانت بيروت روحا واحدة موحدة. يجمعها عصب واحد. وكان الذي يسيطر على سوق الخضر( النورية) و المسلخ، هو من يملك التحكم بالمدينة…ومنذ ذلك الوقت، درجت تسمية “الشارع الوطني”، حين كان المسلمون، هم المسيطرون على النورية و المسلخ…. وهناك نكتة سياسية شاعت ودرجت في لبنان قبل السلاح، تقول إن العمل الوطني هو مجموعة من الشيعة، يتقدمهم رف من المسيحيين، يسيرون في شارع سني بشعارات فلسطينية.
وأما في في ختام الكتاب، فيقول منح بك:
والمحزن أن لبنان الذي كان من أوائل البلدان العربية في الدعوة إلى النهوض العربي، ضاع في النهاية في رمال الصراعات العربية المتحركة وماتت مع فشل نادي العروة الوثقى في البقاء على قيد الحياة، محاولة هامة لدى الشباب العربي في التأثير في الأحداث العربية، بدلا من أن يقع هو فريسة لها. فالنادي الذي تأسس ليكون لبنان ضميرا للعرب، قضت عليه إرادة الأنظمة العربية بالزوال مقدمة لهزيمتها وللحرب الطائشة في لبنان.
منح بك، لا ينسى كرجل مؤسس للثقافة العربية في بيروت. في رأس بيروت. في دار الندوة. في حلقته الشبه يومية التي كانت له في مطعم فيصل. في الجامعة. وفي المقاهي والمنتديات التي شهدته، متكئا على عصا، بطول قرن من تاريخ بيروت الحديث. بطول جيل، تتعثر خطاه بين النهوض والسقوط.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعةاللبنانية.