مدرجات نيم
هذة المدينة الفرنسية التي لا تبعد سوى ساعة بالقطار، عن مدينة مونبلييه، هي حقا العاصمة المكتملة القديمة، في العصر الروماني، للجنوب الفرنسي.
حين وقفت عليها. على قلعتها. على مدرجاتها. على سورها. على أبوابها. على مدخلها. على ساحاتها، على حدائقها، على جسور المائية فيها، كنت أظنني في مدينة بعلبك التي كانت عاصمة الإقليم أيضا، في العصر الروماني.
ما هذا التشابه غير المعقول، في الهنا والهناك، بين الأعمدة. بين الأسوار. بين الملاعب. ما هذا التشابه الآسر بين بلاد نيم-Nimes، أو نيمة كما أسماها العرب، ذات فتح، وبلاد بعلبك. تتمدد الأرض هنا وهناك بطول أناة البنائيين والمهندسين. بطول بالهم. بطول أبصارهم. بعمق أنفاسهم. بعظمة رؤاهم للأقاصي التي لا تنتهي، إلا أذا أرادوا رسم خريطة البعد الثالث لأنفاسهم.
أريد أن أتحدث عن مدينة نيم- Nîmes
في الجنوب الفرنسي اليوم. وأراني مشدودا إلى العصر الروماني، الذي أعطى المدينة هويتها. هي اليوم مدينة الرومان بمعبدها، كما بعلبك، مدينة الشمس، مهما طغى الزمان. هي مدينة العبقرية المعمارية الخالدة. هي بنت هذة العبقرية الهندسية، التي ما رسمت خارطة للمكان، حيث هو، إلا وإصطبغ بحلة اليونان والرومان، حيثما كان.
كنت زرتها في مثل هذا التاريخ من العام الماضي. نزلنا إلى أرضها من بوابة محطة القطار. سرنا بين صفين من أشجار الدلب العالية. بين صفين من أشجار الحور العارية. كانت أشجار نيم-Nîmes كلها، تؤدي التحية المهذبة لنا، على تقاليد الآباء المؤسسين. وبوحي من قوانين أخلاقهم وسياستهم.
كانت الساحة العظيمة قدامها. وكانت الساحة العظيمة خلفها. كانت نيم-Nîmes العظيمة، بين ساحتين منبسطتين، حتى حدود العظمة الناعمة.
كان الخندق العميق كغور نهر غار في التاريخ، يتحوط القلعة، بكل جلال ومهابة. يحرس الزائرين ويرعاهم. يؤنسهم ولا يروعهم. ويدعوهم للدخول إلى إمبراطورية القلعة الملكة، من أبوابها. من تحت تيجانها.
كانت المدرجات تتعالى علينا. نتسلقها مدرجا مدرجا. كنا ننظر إلى بعضنا. نرى صغر قاماتنا. آه ما أصغر الإنسان اليوم، حين يقف على مدرجات نيم-Nîmes، يطاول الأعمدة الشاهقة. آه ما أعظم الإنسان اليوم، حين يقيس قامته بالحجارة الضخام، وبالأعمدة. وبالأفاريز والتيجان المعقدة.
د. قصيّ الحسين وعقيلته في جولتهما في Nimes
نيم- Nîmes اليوم مدينة الحجر والشجر والبشر. تصطف الشوارع التاريخية حولها. تنهض العمائر المكللة بقرميدها الأحمر. تنحني الأقواس للعابرين إلى سقوف التاريخ. تمنحهم شرف الزيارة المقدسة، قبل أن يدون التاريخ نفسه، على الكاتدرائيات الأخاذة المقابلة.
كنا نستمع إلى أجراسها، صبيحة ذلك اليوم، الواقع فيه 6/1/2023 ترحب بنا. كل ما في نيم-Nîmes، كان يهتف لنا. حتى الشبابيك المعقودة، تحت أقواس حجارتها. حتى أبوابها المغلقة. حتى أبوابها المتسعة.
من المعبد الروماني، إلى المقهى المجاور، كانت خطانا توقع المواقيت السحيقة. وقفنا لساعات تحت ساعتها الرومانية من القرن الأول. وقفنا أمام قصر الباباوات، بأبراجه وأفنائه الرائعة. زرنا كاتدرائية سانت كاستور، ذات ااهندسة المعمارية التي تعود للعصور الرومانية والغوثية، الوسيطة. إنحرلنا إلى حدائق جاردن دوفون في قلب المدينة، ووقفنا على حلبة المصارعة، التي تعود لألفي عام. ما هذا المتحف الروماني/ دي لارومانيتي. ما متحف الفنون الجميلة، الذي يعرض لأشهر الفنانيين العالميين. دلفنا من هناك إلى حدائق النافورة التي إستحدثت في القرن الثامن عشر، على تل عظيم وسط المدينة. ومن هناك واجهنا قصر بيرن، وقصر ريجي. وقصر فونتفرواد وقصر بودون. وعرفنا من فنادقها الفخمة، فندقها التاريخي لاميزون. وما تميزت به نيم-Nîmes، هو مساجدها التي تستقبل غير المسلمين، تدرسهم، قواعد الإسلام وأصوله الفقهية. ولغة القرآن، قراءة وكتابة.
كنا نشبه الرومان القدماء، ونحن ننظر إلى مبانيهم الرائعة. كانت حديقة النافورة، منتجعنا. مكثنا على مقاعدها نرتشف القهوة. كان للبن طعم الزيارات القديمة منذ الرشفة الأولى.
أخذتنا جولتنا إلى واجهة متحفها. إلى جميع الحدائق التي إنشرحت لنا. إلى جميع واجهات القصور العظيمة، التي إنتحت هناك، على طرف من التاريخ العريق الذي يحيق بنا.
نيم- Nîmes، ليست مدينة رومانية. بناها الرومان وغادروها. تركوا المدينة لنا. للإنسان الذي يقرأ الأعمدة. يقرأ تيجانها. أقواسها. قواعدها المفترشة، أرض القلعة العظيمة. كانت فنادق نيم-Nîmes جزءا من ثقافتنا. جزءا من أدبنا، حين ننحني للتاريخ الذي سبقنا. وللتاريخ الذي يلحق بنا. ما هذا العالم المدهش الذي يحيط بنا في مدينة نيم-Nîmes. ما هذا العالم المدهش الذي يتحوطنا، ونحن ننظر في أرض قلعتها. في سماء قلعتها. في شمس قلعتها. في بدر قلعتها. في بدور الناس، الذين يحجون إليها. ويجثمون كما الطير مع اليمام والحمام على مقاعدها.
مدرجات نيم-Nîmes، التي إنتظرتنا سويعات، ونحن نعد مقاعدها، نسينا أن نقول لها وداعا. لأننا كنا نريد أن نقول لها إلى اللقاء، في زيارات قادمة!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.