إيمان عبدالله في كتابها مطعم فيصل:
عشق الأمكنة
” في البدء كانت رأس بيروت/ فالجامعة الأميركية/ فشارع بلس/ فمطعم فيصل./
جزء من الجامعة هو “مطعم فيصل”/ والجامعة جزء من هويته وشخصيته/ إمتداد لها هو، وروابط حسية ومعنوية جمعتهما”.
قلما ينجح الكاتب في نقل أحاسيسه عن الأمكنة التي عشقها في حياته. مثل هذا الأمر، إنما يحتاج منه إلى قلم رهيف، لنقل الأحاسيس الرهيفة.
وقلما يجتمع هذان الأمران، في ذات واحدة، ما لم تكن عاشقة. ما لم تكن للأمكنة عذوبتها، حين تبدأ بالتداعي من الذاكرة، مثل ندف الثلج، ثم تقوى عاصفتها وتشتد، حتى تستحيل إلى نساف، تعري مجتمع الثلج الذي تساقط على مهل، وتنقله ألى التعاريج. إلى الكوى. إلى المنحنيات. تنحيه إلى الكهوف. تراكمه هناك. ثم يأتي رجل الثلج ليأخذه في جراب، أو في قراطيس، يثلج به القلوب التي تشتاقه لشدة أوارها من العطش. حين يختلف عليها الزمان الذي عبث بها.
الكاتبة إيمان العبدالله، في كتابها الأخير: “مطعم فيصل. نلسن-2024″، عاشت محنة رجل الثلج، ندفا. ونسفا. وتكديسا وجمعا. ذاقت المعاناة ذاتها. تذوقت جمال الثلج، ندفا ونسجا ونسفا وتكديسا، في كوة رهيفة: كوة الذاكرة. ثم آن لها أن تترك له أن يسيل على الورق، ثلجا من حبر أسود. لكأن كتابها هذا قطعة من الذكريات البيضاء، عن “مطعم فيصل”، التي أحالها الزمن، إلى ثلج أسود. كأنه أتى به للتو، من القرنة السوداء. من مغر القرنة السوداء، في أعالي الأعالي. من الكوة السوداء هناك. من كوة الذاكرة، حيث تعتق الثلج فيها، فأتت به إيمان عبدالله، وأسالته على الورق، حبرا أسود. فصار كتابا ولا أشهى!
ذاقت إيمان عبدالله محنتها، مع “مطعم فيصل”، لأكثر من ثلاثين عاما. كان يتراكم الثلج في ذاكرة المكان. في كوته التي أنشأتها خصيصا له، حتى إستوى لها. وإكتمل فصولا عذبة، ملأت به الصحاف البيضاء. ملأت بها صحفها. ملأت بها صفحاتها. سودتها بقلمها لشدة عشقها لذاك المكان العالق في عنق الذاكرة. أذابت ما في قلبها،من ثلج أسود. قالت إنه إسود بمرور الزمن. فأخرجته أخيرا في كتاب، له لون التبر. معناه. ظلاله. أعجوبته، حين يسيل من فرن الذات الأديبة، ويأخذ حيزه بحجم الورق.
عرفت إيمان عبدالله حقا، كيف تعتق الأمكنة. كيف تعتق الأزمنة. حين تسكب عليها من الثلج الأبيض، وتسفه للريح، فيعرى معاني وظلالا، تطبع النفس القارئة.
مطعم فيصل، هو بعض أنفاس إيمان عبدالله. إشتد بها الحنين، إلى ذلك المكان الذي كان يأخذ حيزه في النفوس، قبل أن يسف عليه الزمن ريحه، ويحيله ألى ثلج أسود. فتأتي الكاتبة، إلى كهفه، وتعريه، كما القائف، كما رجل التاريخ. كما رجل الأثر. تحفر في الذاكرة، حتى تخرج الذكريات حية من تحت الركاميات، حيث متحف الصور.
غلاف كتاب ” مطعم فيصل ” للكاتبة أيمان عبد الله
“مطعم فيصل”، في كتاب إيمان عبدالله، من اللقى. ولهذا إحتفت به كلقيى. جعلت من جوانبه حفافي الضوء. تضوئ على تاريخ عتيق. على تاريخ غريق. إعتنت به، حتى لا تضيع فرصته سدى. فما طغى عليه شارع بلس. ولا طغى عليه باب الجامعة. ولا طغى عليه برج الساعة. ولا طغت عليه الالوف المؤلفة من رواده، الذين غادروه إلى حيث هم الآن، وظل يحفر في الذاكرة.
عرفت الكاتبة حقا، كيف تصنع من مجموعة ذكريات “مطعم فيصل”، في أتون الذات، طوبا من معدن التبر. من ماء الثلج. من حبر العين. عرفت كيف تنشئ به روح الزمان. روح المكان. وتنعش الهواء في رأس بيروت اليوم، قبالة الجامعة.
يتكون كتاب “مطعم فيصل”، من تقديم، بقلم الكاتب سمير عطالله. ومن مقدمة بقلم الكاتبة نفسها، ومن عدد من الفصول، تحدثت بها عن:
١-تأسيس مطعم فيصل ونجاحه، من خلال خصائصه المميزة. ومن خلال موقعه. ومن خلال شكله. ومن خلال ميزات صاحب المطعم توفيق فيصل نفسه، الذي حمل أسمه. وكذلك من خلال موظفيه المميزين، ومن خلال جودة المأكولات وأصنافها وأسعارها.
٢- وعقدت الكاتبة مقارنة بين مطعم الجامعة ومطاعم الجوار: ال “ميلك بار” أو ” الصودا فاونتن” و “مطعم فيصل”. ونظرت كذلك في دور الإعلانات في اامنافسة، التي كانت خليقة بها.
٣- طرحت الكاتبة تساؤلا أوليا: كيف أصبح مطعم فيصل ناديا سياسيا ثقافيا وإجتاعيا. إن في ظل المجتمع الجامعي، أو في كونه ملاذا للتبادل الحر للأفكار، وذلك على ضوء ما كان يحدث في العشرينيات وفي الثلاثينيات وفي الأربعينيات والخمسينيات، وفي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي: “القرن العشرون”. دون أن تنسى، رواده، وخصوصا : منح الصلح ومعن بشور وطلال سلمان وبشارة مرهج وغيرهم.
٤- سلطت الكاتبة الضوء على “مطعم فيصل”، بإعتباره ملتقى المثقفين، ومكان ذاكرتهم. فرصدت بعض الذكريات المختارة لأهميتها. وأشارت إلى ما تناولته من مطبوعات الجامعة، ومن الأضابير المجمعة لديها.
وفي الأخير: قدمت الكاتبة في خواتيم الكتاب، بعض الشهادات عن “مطعم فيصل”، مثل شهادة فؤاد بوارشي ومروان زريقات ومحمد صباغ.
وقالت المؤلفة في الخاتمة: إن “مطعم فيصل”، إنما يمثل نهاية مرحلة، كانت تتوج بيروت. وتصنع لها دورا. وكان هذا الدور، ربما يخرج من فرن “مطعم فيصل” السياسي والثقافي والإجتماعي. و قد أضافت إلى ذلك بعض الملاحق المفيدة. وكذلك بعض السطور التي تعرف بها، كجاري العادة، لدى الناشرين.
وقد إرتأى الناشر الأستاذ سليمان بختي، أن يختار من مقدمة الأستاذ سمير عطالله، بعض السطور، تنويها راقيا، صدره في الأعلى، من الغلاف الأخير:
” تحاول الزميلة إيمان عبدالله أن تستعيد “فيصل” وزمن “فيصل” ومقهى “فيصل”. وقد أمضت في هذا العمل الجميل والصعب بضع سنين. فكيف لي أن أقدم لهذا المجهود بضعة أسطر.
شهود وحكايات ولطائف وطرائف ومودات كثيرة. ذلك هو “فيصل” التاريخي. وهذا هو “فيصل” الكتاب.
وقد قدمت إيمان عبدالله- لأسرة الجامعة وعالم رأس بيروت المتنوع وبيروت الحقبة الجميلة ولبنان الذي تراجع مع أحلامه وأدواره النهضوية- قدمت عملا بغاية الإتقان والأمانة ، وأناقة السرد. وفي إختصار، عمل تاريخي أدبي، يكاد يكون شبيها لألف ليلة وليلة”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
د. قصي الحسين