سلسلة أماكن خاصة:
بيت الفراشات
في الطابق العلوي السابع، من بناية فواز ومقدم، في رأس النبع، قرب مدرسة رأس النبع الرسمية للصبيان، كان حظي أن أشتري بيتا صغيرا، يأويني ويأوي أبنائي، بعدما إقتربوا جدا، من الدراسات الجامعية. كانت كبراهم، قد نالت شهادة البروفيه. وكان همي، أن تتخصص في الإختصاص الذي تريده، فلا يحول دون ذلك البعد عن الجامعات، بسبب سكننا بطرابلس. كان لا بد لنا من “رأس جسر”، كما قال لي أحد الزملاء، حين تقدم مني مهنئا بشراء البيت. بيت الفراشات. في بيروت. في محلة رأس النبع. بجوار مدرس العاملية، في شارع الشقيف، وبجوار مدرسة رأس النبع الرسمية للصبيان.
تذكرت ذلك كله، دفعة واحدة. هجمت علي خواطري دفعة واحدة. وكادت العبرات أن تأخذ بي. أن تملأ مني صدري وعيوني، حين وقعت هذا الصباح على نعي الجار والصديق، محمد عبد الرحمن غنوم، أبو محي الدين، الذي كنت إشتريت منه البيت، في العام1995.
أذكر تماما: كانت الكهرباء مقطوعة مثل اليوم، في ذلك الحين. أخذت منه المفتاح، وصعدت إلى الطابق السابع. دخلته على مهل. كان إبنه الراحل عبد الناصر، لا يزال يسكن فيه مع عائلته الصغيرة. مررت على غرفه يأسرني الحياء. وفجأة توقفت أمام واجهته الزجاجية الطويلة، لجهة الجنوب. كان سطر من الفراشات، قد حط على زجاج الواجهة.
شغلتني هذة الفراشات. هزت مشاعري هزا. سطر من الفراشات. صف، بل رف من الفراشات، تسبقني وتنتظرني مرحبة من خلف الزجاج. وجدتني وقد جعلتني أحسم أمري، وأوافق على شرائه، دون التوقف عند الكثير من عيوبه. دون التردد في شرائه. وحين نزلت إلى دكانه، دكان أبو محي الدين، صاحب باتيسيري غنوم، قرب مدخل البناية، كان موقفي محسوما. قلت في نفسي: إشتريت صحبة هذة الفراشات، التي أحبت زجاج واجهته، وجعلته محطتها. جعلته منصتها. جعلته منبرها. تخاطب قلوب أهل البيت، مع طلوع الشمس، وتتخذ من بعض الكوى والنوافذ فيه، بياتها، بل بيتا لها. وصرت حين آتي إلى البيت، لتفقده، بين الحين والآخر، تهاتفني نفسي: إشتقت لبيت الفراشات.
لازمتني هذة التسمية. كنت كلما جئته من طرابلس، أصطحب معي صفا من الفراشات: أبنائي. كانوا مثل الفراشات. أهتف لهم ببيروت، فيسرعون إلى تحضير أنفسهم، ويطيرون إلى السيارة. كانوا يومها في عمر الفراشات. كانوا يدخلون إلى البيت، ويتحلقون حول واجهته الزجاجية. أتذكر عندها ذلك السطر من الفراشات. أجدهم يريدون التحدث مع جميع الفراشات، على شبابيك المنازل التي تحيط بنا. لطالما إصطحبتهم إلى الفراشات اللاهية على الأراجيح، في حديقة البناية المجاورة.
خمس فراشات نزلوا من السيارة. كانوا بصحبتي، حين أتيت إلى بيت الفراشات برأس النبع. ذلك البيت الصغير، التي تعشش فيه الفراشات. ذلك البيت الصغير، الذي يحط على زجاهه، صباح كل شمس، صف من الفراشات. ذلك البيت الصغير، الذي يطل من عليائه، من الطابق العلوي السابع، على حديقة الفراشات. على شبابيك الفراشات.
أمضيت ردحا من العمر، وأنا أصطحب الفراشات إلى بيت الفراشات في رأس النبع. كانت الفراشات التي أصطحبها، كل أسبوع. كل عطلة. كل فرصة مدرسية. إلى بيت الفراشات في بيروت، تصنع الربيع، مع فراشات الزجاج. مع فراشات النوافذ. مع فراشات الحدائق. مع الفراشات، على مقاعد الحدائق.
تجتمع الفراشات، في بيت الفراشات، فيمتلئ البيت غناء. يمتلئ البيت لهوا. يمتلئ البيت طربا. ترقص الغرف كلها. تتراقص الأسرة والمقاعد. تتعالى الفراشات، تحلق بأجنحتها إلى السقف. تسقط الثريات على الأرض. تهتز الجدران. تعرش أقلام الفراشات على الجدران. تخربش. ترسم. تلون. تتعالى الأصوات: كيف تضرب الفراشات بأجنحتها، على الحوائط. كيف تكسر زجاج النوافذ. كيف تحطم المرايا. كيف تخرج من البيت بلا مفتاح. وكيف تعود للدخول إليه، من النوافذ. من السطح. ما هذا الشغب اللذيذ الذي إفتقدته أنا في بيت الفراشات،ما هذا اللهو الجميل، الذي طار فجأة من البيت، بعد أن طارت الفراشات.
دخلت إليه هذا الصباح. قرأت نعي جاري محمد عبد الرحمن غنوم، الذي إبتعت منه قبل أقل من ثلاثين عاما، بيت الفراشات. طارت الفراشات من البيت. كان فارغا من الصوت. كان صامتا. كان هذا الصباح حزينا. ثقيلا علي.
طارت الفراشات جميعها من البيت. كبرت عليه وسافرت. خلفت وراءها غرفا حزينة فارغة. أسرة لغبار الفراشات. خزانات لغبار الفراشات. جوارير لجوارب الفراشات وعبوات عطر فارغة، على الأرائك، ورفوف المكتب والواجهة.
كانت المكتبات التي إمتلأت بها الخزانات في الغرف المتجاورة، كلها تشكو من ضيق النفس، بعد أن طار ربيع شبابها، وخلفها للغبار.
ماذا يقول اليوم الغبار، إذا ما إلتقى بالغبار. ينظر. يتملى ورقة النعي. يستذكر. يعود إلى الذاكرة.
سدت في وجهه، كل الجهات. طار سطر الفراشات عن الواجهة. كبرت فراشات البيت، وطارت، واحدة واحدة. خيط من الدمع أخيط به عيني هذا الصباح. أذهبه بشعاع من شمس الصباح. وأرسله إلى البعيد البعيد، وراء ثلة من الفراشات. بل وراء كوكبة من الفراشات، التي إغتربت. هجرت بيت الفراشات. أرسله وراء سطر من الفراشات، حط على الزجاج ذات يوم. كتبت عليه بأرجلها، كل هاتيك المسيرة الغابرة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين