قرأت وكتبت : حفيظة ميمي
رواية: صباح ومساء
للنرويجي : يون فوسه 64 سنة
الحاصل على جائزة نوبل للآداب 2023م
ترجمتها عن النرويجية : شرين عبد الوهاب و أمل رواش
📖📖📖
بين الحياة والموت
بين الميلاد والإحتضار
بين الوجود والعدم
بين النور والظلام
أو بين الصباح والمساء (عنوان الرواية)
وقت وجيز كيوم واحد بين الاستيقاظ صباحا ومن ثم النوم مساء.. عمر مهما طال ووصل إلى الهرم يمر في لمحة بصر ..! ربما هكذا فكر “يون فوسه” النرويجي الحائز على جائزة نوبل للآداب 2023م في صياغة روايته “صباح ومساء” من فصلين أو مقطعين بترقيم 01 و 02 فقط لا ثالث لهما؛ فصل قصير من 24 صفحة عن الميلاد وفصل طويل شمل باقي الرواية إلى غاية الصفحة 130 عن الموت في إشارة إلى أن الإحتضار يحتاج إلى وقت أطول لخروج الروح عكس الميلاد الذي لا يحتاج إلا لصرخة واحدة للخروج إلى الحياة أما آلام المخاض فلا تعني المولود في شيء، بأسلوب بسيط هادئ وكلمات سهلة مباشرة دون وصف للشخصيات بل للمشاعر والأفكار والتصورات وأيضا الأماكن كالميناء والبحر والجو كالمطر والبرد والعاصفة.. “يون فوسه” المعروف بالأديب الصامت صاحب النثر البطيء.. كانت أحداث روايته تمشي بهدوء وتؤدة حتى أنه يمكنني القول بأنها رواية تتحرك بروية.
☆01☆
تبدأ الرواية بطلب القابلة العجوز “آنا” مزيدا من الماء الساخن من زوج المرأة التي تصرخ في الداخل من آلام المخاض الذي يبدو متعسرا.. كما تطلب منه عدم الحضور لأن وجود الرجال في هذه الحالة فأل شؤم مثله مثل حضور امرأة على متن مركب صيد.. فالرجل صياد ويعرف ذلك جيدا ويريد مولودا ذكرا يخرج بسرعة من رحم أمه الدافئ إلى الدنيا رغم الطقس البارد كما يريده أن يكون صيادا مثله ويسميه على اسم جده “يوهانس”.
☆02☆
“يوهانس” الصياد العجوز وحيدا في منزله ينهض كعادته ليعد فنجان قهوته وفطيرة جبن الماعز مع الخبز البائت ثم يدخن سجائره في المطبخ قبل أن يتفقد الكوخ ومعدات الصيد القديمة وأواني زوجته الراحلة ويتذكر حياته كشريط سريع فأولاده السبعة كبروا ورحلوا وأحفاده لم يعد يحسب كم عددهم، فقط ابنة واحدة مازالت تزوره وتتفقد أحواله فهي تسكن قريبة منه.. وقبل أن يخرج من المنزل باتجاه البحر رفيق دربه وحياته كلها يلاحظ خفته اليوم على غير العادة فهو يمشي بشكل طبيعي كما في شبابه وفي البحر يلتقي صديقه “بتر” يتحادثان كعادتهما ويترافقان في قارب واحد لكنه يتفطن أن صديقه ميت منذ فترة ويحاول التأكد بأن يسأله أو يلمسه لكن يتدارك الأمر بقوله : غير لائق أن يسأل المرء أحدهم إن كان حيا..! لكنه يرفع حصاة صغيرة ويضرب بها ظهره وهو يفرد الشباك أمامه في البحر فكانت صدمته كبيرة بولوج الحجر الصغير ظهر صديقه وعبوره ليستقر في ماء البحر..!
ورغم ذلك ترافقا واصطادا معا وحاولا بيع ما اصطاداه دون جدوى فلا زبائن بل ولا أحد في المدينة الفارغة إلا الآنسة العجوز التي ستأتي لأخذ كيس السراطين كعادتها كما قال “بتر” أراد “يوهانس” أن يعترض بقوله : ولكنها ميتة منذ عام أو أكثر ثم أحجم عن ذلك أمام إصرار صديقه بأنها حتما ستحضر.. وفعلا حضرت فقد رآها بأم عينه
كيف ذلك..؟! لم يدقق كثيرا في المشهد فأموره اليوم غريبة عجيبة؛ خفته، حديثه مع صديقه المتوفي، ركوبه البحر منذ مدة طويلة بعد تقاعده، رميه للثقالة التي ترفض أن تغوص في ماء البحر، وجوب قص شعر صديقه الذي طال كثيرا وغزاه الشيب، لقاؤه الأول بزوجته المستقبلية وأم أولاده التي رحلت قبله.. وتفاصيل أخرى كثيرة لكن عودته إلى المنزل جعلته يفرح كعادته فعساه يجدها في إنتظاره مع فنجان قهوة ساخن
لكنه اصطدم مع ابنته التي قلقت بشأنه لأنه لم يرد على الهاتف يوما كاملا.. لم يكن إصطداما بقدر ما كان إختراقا، نعم إخترقته دون أن تدري أو تراه أو حتى تعرفه.. كيف حدث ذلك؟! رغم أنه كان يناديها باسمها “سيجنه”
ربما نقول هنا بأنها معذورة لأنها كانت مذعورة باكتشافها تحت ضوء القنديل الخافت الذي بدد كل هذا الظلام الدامس الذي يلف منزل الصياد العجوز؛ جثة والدها “يوهانس” الممتدة على السرير فقد غادر الحياة وهو نائم وهذا يعني أنه لم يستيقظ اليوم كعادته بدليل فنجان القهوة وجراب التبغ والمنفضة الفارغة منذ الليلة الفائتة فوق دكة المطبخ.
وفي حين أن ابنته تبكي عند رأسه وهو جثة هامدة يرقد على سريره مغمض العينين، يواصل رحلته بعيدا في البحر إلى أقصى مداه حيث يلتصق البحر بالسماء وهو لايزال برفقة صديقه الذي يخبره: أنت أيضا مت يا يوهانس هذا الصباح..! ويتحتم عليك أن لا تنظر خلفك.. أنت الآن سوف تنظر إلى السماء وتنصت إلى الأمواج (صفحة 126)
ويتوحد البحر والسماء في كيان واحد والريح العاصف والغمام والضوء والماء وقبل أن تمحى الكلمات يقول “يوهانس” الرضيع المولود الجديد والشيخ الصياد العجوز في آن واحد:
إن هنالك الذي في الأسفل بشع..! (صفحة 128)
بين الجمال والبشاعة
بين الأرض والسماء
بين الدنيا والآخرة
بين الميلاد والإحتضار
بين الحياة والموت..
شعرة، فارقة زمن مهما طال فهو قصير
فصل واحد للميلاد وآخر للموت.. وماذا بعد ؟!
في رواية “صباح ومساء” أراد “يون فوسه” لفت الإنتباه إلى معنى الحياة التي لا تساوي شيئا من منظور تأملي عميق بطرح عديد الأسئلة حول فلسفة الحياة والموت وحول الله إله الخير وحول الشيطان إله الشر (حسب معتقده) ثم التعمق إيمانيا في وجود الله حيث يقول على لسان البطل الأول في الظهور؛ الأب الذي ينتظر مولودا: لابد أن ثمة روحا إلهية كائنة في كل شيء وهو ما يُحول كل شيء من العدم ليكون شيئا ما، ليكون شيئا أكثر من كونه لا شيء، يحوله لمعنى ولون.. تكون كلمة الله وروحه كامنة في كل شيء أيضا.. إلى أن يقول حسب تفكير نفس الشخصية: إن الله خلق الكون طيبا، وهو القادر على كل شيء وهو العالم بكل شيء كما يقول الأتقياء (صفحة 12)
أسئلة ضمنية داخل الرواية طرحت بشكل مباشر وغير مباشر؛
كيف أن الإنسان يولد وحيدا بانفصاله الأول عن أمه ينفصل عن العالم بأسره ثم يكبر ويكابد ويشقى ويحب ويتزوج وينجب أطفالا وأحفادا كُثر ليبقى وحيدا في الأخير كيوم مولده وخروجه إلى الحياة أو منها وشعوره أول الأمر وآخره بنفس برودة الطقس.
وأتساءل في الأخير:
هل فعلا يستمر الجو باردا في هذه الحياة إلى غاية الممات..؟!
أم أن الإجابة عن كل تساؤلات الرواية وأسئلة الحياة عامة تكمن في دفء العلاقة مع الناس وقبلها في دفئها مع خالق الناس.
بقلم : حفيظة ميمي
رواية : صباح ومساء
يون فوسه نوبل 2023م