سلسلة ” أماكن عامة” :
مدرسة الصلاح
قبالة دار المعلمين بطرابلس، تقع مدرسة الصلاح للبنات. كنت في السنة الدراسية الثانية، بدار المعلمين، حين دخلتها لأول مرة. كنت بصحبة المدرس، وزملائي في الصف. كان علي أن أعطي درسا، أمام زملائي وأمام أستاذي. وأمام مدرسة الصف ومديرة المدرسة والناظرة.
كنت يومها معتدا بنفسي. شعرت أني لا أحتاج إلى تحضير الدرس. فكانت المفاجأة: تلعثمت. وأسقط في يدي. ولم أعد قادرا على متابعة فقرات الدرس. فبدر إلي أستاذي، وأنقذني. وأكمل شرح الدرس. وكانت ورطتي كبيرة. تورط بالفشل تورطا. ثم إنتقلنا كهيئة تدريسية، إلى قاعة الإجتماعات. هناك كان التقويم السلبي لدرسي. وسمعت من أستاذي كلمة لم أنسها بعد: يقول المثل الصيني: “من لم يستعد لمواجهة الذبابة، فتك به الأسد”. حضني بأدبه وبأسلوبه التربوي، على عدم التهاون في التحضير. قال لي: لن أضع لك علامة اليوم.
أجل أستاذي موعد درسي ذلك لمرة قادمة. وفاجأ الصف بي. فصفق الجميع لنجاحي المتفوق في إعطاء الدرس. قال أمام جمعنا: لقد حضر الدرس. فقط حضر الدرس. أراد أن يفهم الجميع، أن الأستاذ هو الأستاذ، وإنما الشأن شأن تحضير الدرس.
ما دار في خلدي، أني سأكون بعد سنوات، مدرسا في هذة المدرسة: مدرسة الصلاح الرسمية المتوسطة للبنات. لكن رئيس دائرة التربية، الذي كان أستاذي يومها، تذكرني. وتذكر حادثتي. حين راجعته بطلب الإنتقال من مدرسة قريتي، إلى أية مدرسة بطرابلس. شرط أن لا أتكبد أجور نقل. بعد تفشي الحوادث الأمنية. وبعد إضطراري لمغادرة قريتي، وطلب العيش بعيدا عنها، حتى ولو كان بطرابلس. ألح رئيس الدائرة علي أن أقبل، بالإلتحاق بمدرسة الصلاح الرسمية في أبي سمراء، لأن إدارة المدرسة تطالبه بمدرس للغة العربية. وكلما كنت أتمنى عليه، أن يكون إلتحاقي، في وسط المدينة لتوفير أجرة النقل. كان يرد علي: أجرة الصعود إلى أبي سمراء ثلاث فرنكات. وأجرة النزول فرنكين. وكلها ربع ليرة يا أستاذ قصي.
ما كان يدري بحالي. ما كان يعرف، أني أنفق راتبي كله على أهلي. لكني قبلت عرضه. قبلت بالتسوية بيني وبينه. لأسلوبه الذي أعرفه والذي تربيت عليه، طيلة فترة دراستي في دار المعلمين، قبالة مدرسة الصلاح المتوسطة الرسمية النموذجية للبنات..
أذكر أني إلتحقت بمدرسة الصلاح المتوسطة الرسمية للبنات بطرابلس- أبي سمراء، بعد إنتهاء الحرب الأهلية. حرب السنتين. قبل إسبوع أو إسبوعين من دخول قوات الردع العربية إلى مدينة طرابلس، آتية من بيروت. تفاءلت بذلك. وإنطلقت بي سيارة الأجرة من موقف أبي سمراء، في ساحة التل، قبالة “مقهى فهيم” التاريخي. وما هي إلا بضع دقائق، حتى كنت أمام مديرة المدرسة. تقدمت منها، بقرار النقل. رحبت بي. كنت يومها، في السنة الثانية، من دراسة الماجستير، في اللغة العربية وآدابها. على مشارف إنهاء طبع الرسالة، وتقديمها للمناقشة، أمام اللجنة في الجامعة اللبنانية. فأسندت المديرة إلي، تدريس الصفين الأخيرين من شهادة البروفيه. قبلت التحدي. قبلت بوضع نفسي أمام المراهقات من صبايا المدرسة.
كان بناء المدرسة، من المباني التاريخية الجميلة في محلة أبي سمراء. قبالة دار المعلمين الحديث البناء. كان يطل على حديقة “فيلا الدكتور عبس” الجميلة. وأمامها عقدة طرقات، بل تقاطع من الطرقات النظيفة. وكرم عظيم من الزيتون، قبل أن يصبح فيما بعد عقارا للبناء. وهي أيضا ليست بعيدة عن مركز التدريب التربوي، الذي بني ليكون مركزا لتدريب المعلمين.
كانت مدرسة الصلاح، آخر بناء من أبي سمراء، على مقربة من محلة الشلفة. ومن المرجة. ومن السكة البيضا، التي تصل زغرتا بالكورة، من ناحية جسر القناطر. وبعدما إستحدث الطليان جسرا على نهر أبو علي. على نهر رشعين. فكنا نخرج بالنزهات المدرسية إلى تلك الجهات. إلى تلك الجنان والجنات. نرافق نهر رشعين حتى منبعه. ونجتاز جسر القناطر أو جسر الطليان، للوصول إلى زيتون مجليا، وكروم اللوز والعريش.
كانت بلدة مجليا، هي حد العقبة، حيث تطل منها بلدة زغرتا. وحيث يطل الجسر الذي يصل بين مجليا وزغرتا. وحيث المرجة العظيمة وتلة الخازن، التي تشرف على كروم الزيتون. وعلى دنيا زغرتا الزاوية العظيمة.
لطالما إصطحبت المدرسة في رحلات مدرسية، إلى إهدن وإلى الأرز. و إلى عكار. ولطالما إستضفتهم في قريتي. ولطالما إفترشنا الربيع في البستان عندنا. ولطالما هب إلينا والدي، يقطف لنا سلالا من الخوخ والجنارك والدراق. لطالما كان يزورنا في المدرسة.
كنا في أواخر السنة الدراسية من كل عام، نقصد مطاعم سير الضنية ومطاعم زغرتا ومطاعم حصرون وبشري و حدث الجبة. كانت الهيئة التعليمية تودع عامها الدراسي، بغداء عائلي. كانت المدرسة مجتمعا أهليا عائليا. كانت مدرسة الصلاح طيلة تدريسي فيها، مولعة بالرحلات المدرسية. عملت طيلة وجودي في المدرسة، مع المديرة وهيئة الناظرات، لإطلاق الصبايا، في الجوار القريب والبعيد من المدينة. بعد حصار السنتين داخل أسوار المدينة.
كانت سنوات تدريسي في مدرسة الصلاح بطربلس، من أغنى سنوات حياتي. تعرفت من خلال الزميلات والزملاء، ومن خلال أهالي التلميذات،على نسيج المدينة. لطالما كانت الدعوات تصلني منهم بكثرة لزيارتهم في منازلهم، في ظروف أفراحهم وأتراحهم. ولطلما كنت ألبي تلك الزيارات بكل رغبة. فلا أقصر عنها، إلا إذا ما واجهتني حاجة. كانت الزيارات من الواجبات، بعدما صرت من أهل المدينة. بعدما تأهلت وودعت العزوبة. وصار واجبا علي أن أرد على الزيارة بالزيارة، كما يرد على التحية بالتحية. كانت الزيارت بيننا مثل التحيات. وكانت قلوبنا وما زالت، تفاح التحيات، في جميع المناسبات العائلية.
بدأت التدريس في مدرستي الثالثة، في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني1976. ودخلت قوات الردع العربية إلى طرابلس في العشرين من شهر تشرين الثاني، العام1976. تلاقينا معا، على الأمن والأمان، والعمل الجاد للنهوض بالبلاد، بعد الأحداث التي أدمتنا لعامين عظيمين، كان من الصعب، أن تعود اللحمة بين الناس، خصوصا بين المدينة وقرى الجوار، من زغرتا والكورة والبترون وعكار. كانت مسؤولية التعليم، في المدرسة الرسمية، مسؤولية جسيمة. وكانت مدرسة الصلاح المتوسطة الرسمية للبنات، مدرسة نموذجية على هذا الصعيد الوطني.
كنت بين ثلاثين مدرسة. وكنت رابع المدرسين. وكنت إلى هذا وذاك في سن الدراسة والتدريس. وفي سن الشباب. وسرعان ما برزت في المدرسة بعطائي وجهدي وخبرتي وعلمي وإجتهادي. كنت أدخل إلى الصف، فأقوم بواجبي على أكمل وجه. ما تأخرت يوما، ولا تلكأت عن صف. ولا تكأكأت في الصف. كان النجاح عهدا في المدرسة، بلا تسريب مدرسي. وكان من تلميذات الشهادة، من تنال درجة التفوق في الشهادة الرسمية. كانت مدرسة الصلاح، بإدارة وعمل السيدة الراحلة وعد الشهال، تعتبر مدرسة نموذجية، ما تخلفت عن درجتها، مقدار أنملة، طيلة السنوات التي عرفتها فيها.
ومثلما كانت المدرسة، تخرج طلابها. وتحضر لهن حفلات التخرج في نهاية كل عام، فقد شهدت على تخرجي من الجامعة اللبنانية بشهادة الماجستير، بدرجة ممتاز. فعزمت على متابعة الدراسة، في الجامعة اليسوعية ببيروت. وقد نظمت لي الزميلات، بمشاركة إدارة المدرسة حفل كوكتيل. تناولنا جميعا، وأنا منهم، من الصدور ، الحلوى الطرابلسية. عنيت حلوى الصدور النحاسية.
كانت مدرسة الصلاح جميلة، كبيت الشعر، في المبنى وفي المعنى. دفعت بي، لأكون من أوائل المدرسين الذين درسوا في الجامعة اللبنانية، التي دشنت فروعها، في طرابلس، في العاشر من نيسان، من العام1977. كنت من الهيئة التعليمية لمدرسة الصلاح في حفل الإفتتاح: مشاركا وممثلا ومدرسا. كان ذلك اليوم تاريخيا في حياتي. أحفزني أن أتخرج من مدرسة الصلاح، بدرجة الدكتوراه، من الجامعة اليسوعية في الثامن والعشرين من شهر شباط العام1980، لأكون مدرسا من هيئة التدريس في مدرسة الصلاح، ومدرسا من هيئة التدريس بالساعة ، في كلية الآداب- الفرع الثالث، قسم اللغة العربية، في الجامعة اللبنانية.
سبع سنوات، وأنا أنتقل كل يوم، بين أبي سمراء والقبة. أدرس في مدرسة الصلاح حتى الظهيرة، ثم أغادر للتدريس في كلية الآداب، بعد الساعة الثانية. أذكر أنني كنت أدرس زهاء إثنتي عشر ساعة يوميا. ست ساعات في مدرسة الصلاح، وست ساعات في الجامعة اللبنانية، بعد إستئناف الإشتباكات العسكرية، وإنقطاع المدرسين من بيروت، عن القدوم إلى طرابلس، لدواع أمنية.
في بداية أمري، إتخذت سكني قرب الجامعة. فكنت أذهب في الصباح، من القبة إلى أبي سمراء، للتدريس في مدرسة الصلاح. ثم أعود إلى القبة لأدرس في الجامعة اللبنانية. كان بيتي في القبة، بيت العزوبية. غير أني إنتقلت للسكن في أبي سمراء بعد التأهل العائلي، لأذهب من أبي سمراء إلى القبة. وصرت آنئذ، جار المدرسة. كانت أبي سمراء، مقصد العائلات. كانت من جنان المدينة.
شهدت مدرسة الصلاح بأبي سمراء، على حفل تفرغي في الجامعة اللبنانية. فغادرتها، بعد أن أهديتها نصف مكتبتي، التي كانت بحوزتي في المدرسة. خرجت ورائي المدرسة مودعة، يوم إلتحاقي في العاشر من نيسان، العام1985، أستاذا متفرغا في كلية الآداب-3، قسم اللغة العربية. ضممت سنوات تعليمي في مدرسة الصلاح، إلى سنوات تعليمي في الجامعة. ولا زلت حتى اليوم أقرن مدرسة الصلاح بالجامعة. فقد أنبهتني لأكون أستاذا جامعيا. لا زلت أذكر سنوات التعليم في القرى، وسنوات التعليم في المدينة. كانت مدرسة الصلاح، جسر العبور إلى الجامعة.
أذكر كيف كانت المدرسة تشاركني همومي. تشاركني أفراحي. تقاسمني الهم والغم، وتفرج عني كربي. تمد لي يد العون، كلما ضاقت يدي عن يدي. أسماء سيدات زميلات، حفرت في ذاكرتي، في مدرسة الصلاح،خلال السنوات السبع التي عشتها، وعشقتها فيها: 1تشرين الثاني -1976_10 نيسان- 1985. ما أجمل أن يكون الإنسان وفيا للذاكرة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصي الحسين